الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            باب ما جاء في صوم شعبان والأشهر الحرم

                                                                                                                                            1722 - ( عن أم سلمة : { أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يصوم من السنة شهرا تاما إلا شعبان يصل به رمضان } . رواه الخمسة ولفظ ابن ماجه : { كان يصوم شهري شعبان ورمضان } ) .

                                                                                                                                            1723 - ( وعن عائشة قالت : { لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يصوم أكثر من شعبان فإنه كان يصومه كله } .

                                                                                                                                            وفي لفظ { ما كان يصوم في شهر ، ما كان يصوم في شعبان ، كان [ ص: 291 ] يصومه إلا قليلا ، بل كان يصومه كله } .

                                                                                                                                            وفي لفظ : { ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم استكمل صيام شهر قط إلا شهر رمضان ، وما رأيته في شهر أكثر منه صياما في شعبان } . متفق على ذلك كله ) .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            حديث أم سلمة حسنه الترمذي قوله : ( شهرا تاما إلا شعبان ) وكذا قول عائشة " فإنه كان يصومه كله " . وقولها : " بل كان يصومه كله " ظاهره يخالف قول عائشة " كان يصومه إلا قليلا " وقد جمع بين هذه الروايات بأن المراد بالكل والتمام الأكثر . وقد نقل الترمذي عن ابن المبارك أنه قال : جائز في كلام العرب إذا صام أكثر الشهر أن يقال : صام الشهر كله ، ويقال : قام فلان ليلته أجمع ، ولعله قد تعشى واشتغل ببعض أمره . قال الترمذي : كأن ابن المبارك جمع بين الحديثين بذلك .

                                                                                                                                            وحاصله أن رواية الكل والتمام مفسرة برواية الأكثر ومخصصة بها ، وأن المراد بالكل الأكثر ، وهو مجاز قليل الاستعمال واستبعده الطيبي قال : لأن لفظ كل تأكيد لإرادة الشمول ورفع التجوز ، فتفسيره بالبعض مناف له ، قال : فيحمل على . أنه كان يصوم شعبان كله تارة ، ويصوم معظمه أخرى لئلا يتوهم أنه واجب كله كرمضان ، وقيل المراد بقولها : " كله " أنه كان يصوم من أوله تارة ومن آخره أخرى ، ومن أثنائه طورا فلا يخلي شيئا منه من صيام ولا يخص بعضا منه بصيام دون بعض . وقال الزين بن المنير : إما أن يحمل قول عائشة على المبالغة ، والمراد الأكثر ، وإما أن يجمع بأن قولها : " إنه كان يصومه كله " متأخر عن قولها : " إنه كان يصوم أكثره " وأنها أخبرت عن أول الأمر ثم أخبرت عن آخره ، ويؤيد الأول قولها : { ولا صام شهرا كاملا قط منذ قدم المدينة غير رمضان } أخرجه مسلم والنسائي .

                                                                                                                                            واختلف في الحكمة في إكثاره صلى الله عليه وسلم من صوم شعبان فقيل : كان يشتغل عن صيام الثلاثة الأيام من كل شهر لسفر أو غيره فتجتمع فيقضيها في شعبان ، أشار إلى ذلك ابن بطال . ويؤيده ما أخرجه الطبراني في الأوسط عن عائشة قالت : { كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم ثلاثة أيام من كل شهر فربما أخر ذلك حتى يجتمع عليه صوم السنة فيصوم شعبان } ، ولكن في إسناده ابن أبي ليلى وهو ضعيف . وقيل : كان يصنع ذلك لتعظيم رمضان ، ويؤيده ما أخرجه الترمذي عن أنس قال : { سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم : أي الصوم أفضل بعد رمضان ؟ فقال : شعبان لتعظيم رمضان } ولكن إسناده ضعيف ; لأن فيه صدقة بن موسى وليس بالقوي . وقيل : الحكمة في ذلك أن نساءه كن يقضين ما عليهن من رمضان في شعبان ، فكان يصوم معهن . وقيل : الحكمة أنه يتعقبه رمضان وصومه مفترض ، فكان [ ص: 292 ] يكثر من الصوم في شعبان قدر ما يصوم شهرين غيره لما يفوته من التطوع الذي يعتاده بسبب صوم رمضان . والأولى أن الحكمة في ذلك غفلة الناس عنه لما أخرجه النسائي وأبو داود وصححه ابن خزيمة من حديث أسامة قال : { قلت : يا رسول الله لم أرك تصوم من شهر من الشهور ما تصوم من شعبان ، قال : ذلك شهر يغفل الناس عنه بين رجب ورمضان ، وهو شهر ترفع فيه الأعمال إلى رب العالمين فأحب أن يرفع عملي وأنا صائم } ونحوه من حديث عائشة عند أبي يعلى ، ولا تعارض بينه وبين ما روي عنه صلى الله عليه وسلم من صوم شعبان أو أكثره ووصله برمضان وبين أحاديث النهي عن تقدم رمضان بصوم يوم أو يومين ، وكذا ما جاء من النهي عن صوم نصف شعبان الثاني فإن الجمع بينها ظاهر بأن يحمل النهي على من لم يدخل تلك الأيام في صيام يعتاده ، وقد تقدم تقييد أحاديث النهي عن التقدم بقوله صلى الله عليه وسلم { إلا أن يكون شيئا يصومه أحدكم . } .

                                                                                                                                            فائدة : ظاهر قوله في حديث أسامة : " إن شعبان شهر يغفل عنه الناس بين رجب ورمضان أنه يستحب صوم رجب ; لأن الظاهر أن المراد أنهم يغفلون عن تعظيم شعبان بالصوم كما يعظمون رمضان ورجبا به . ويحتمل أن المراد غفلتهم عن تعظيم شعبان بصومه كما يعظمون رجبا بنحر النحائر فيه ، فإنه كان يعظم ذلك عند الجاهلية وينحرون فيه العتيرة كما ثبت في الحديث ، والظاهر الأول . المراد بالناس : الصحابة ، فإن الشارع قد كان إذ ذاك محا آثار الجاهلية ، ولكن غايته التقرير لهم على صومه ، وهو لا يفيد زيادة على الجواز . وقد ورد ما يدل على مشروعية صومه على العموم والخصوص . أما العموم فالأحاديث الواردة في الترغيب في صوم الأشهر الحرم وهو منها بالإجماع . وكذلك الأحاديث الواردة في مشروعية مطلق الصوم . وأما على الخصوص فما أخرجه الطبراني عن سعيد بن أبي راشد مرفوعا بلفظ : { من صام يوما من رجب فكأنما صام سنة ، ومن صام منه سبعة أيام غلقت عنه أبواب جهنم ، ومن صام منه ثمانية أيام فتحت له ثمانية أبواب الجنة ، ومن صام منه عشرة لم يسأل الله شيئا إلا أعطاه ، ومن صام منه خمسة عشر يوما نادى مناد من السماء قد غفر لك ما مضى فاستأنف العمل ، ومن زاد زاده الله } ثم ساق حديثا طويلا في فضله . وأخرج الخطيب عن أبي ذر { من صام يوما من رجب عدل صيام شهر } وذكر . نحو حديث سعيد بن أبي راشد . وأخرج نحوه أبو نعيم وابن عساكر من حديث ابن عمر مرفوعا .

                                                                                                                                            وأخرج أيضا نحوه البيهقي في شعب الإيمان عن أنس مرفوعا .

                                                                                                                                            وأخرج الخلال عن أبي سعيد مرفوعا { رجب من شهور الحرم ، وأيامه مكتوبة على أبواب السماء السادسة فإذا صام الرجل منه يوما وجدد صومه بتقوى الله نطق الباب ونطق اليوم وقالا : يا رب اغفر له ، وإذا لم يتم صومه بتقوى الله لم يستغفر له ، وقيل : خدعتك نفسك } [ ص: 293 ] وأخرج أبو الفتوح بن أبي الفوارس في أماليه عن الحسن مرسلا أنه قال صلى الله عليه وسلم : { رجب شهر الله ، وشعبان شهري ، ورمضان شهر أمتي } . وحكى ابن السبكي عن محمد بن منصور السمعاني أنه قال : لم يرد في استحباب صوم رجب على الخصوص سنة ثابتة ، والأحاديث التي تروى فيه واهية لا يفرح بها عالم . وأخرج ابن أبي شيبة في مصنفه أن عمر كان يضرب أكف الناس في رجب حتى يضعوها في الجفان ويقول : كلوا فإنما هو شهر كان تعظمه الجاهلية .

                                                                                                                                            وأخرج أيضا من حديث زيد بن أسلم قال : { سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صوم رجب فقال : أين أنتم من شعبان } ؟ .

                                                                                                                                            وأخرج عن ابن عمر ما يدل على أنه كان يكره صوم رجب . ولا يخفاك أن الخصوصات إذا لم تنتهض للدلالة على استحباب صومها انتهضت العمومات ، ولم يرد ما يدل على الكراهة حتى يكون مخصصا لها . وأما حديث ابن عباس عند ابن ماجه بلفظ : إن النبي صلى الله عليه وسلم { نهى عن صيام رجب } ففيه ضعيفان : زيد بن عبد الحميد ، وداود بن عطاء .

                                                                                                                                            1724 - ( وعن رجل من باهلة قال : { أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت : يا رسول الله أنا الرجل الذي أتيتك عام الأول ، فقال : فما لي أرى جسمك ناحلا ؟ قال : يا رسول الله ما أكلت طعاما بالنهار ، ما أكلته إلا بالليل ، قال : من أمرك أن تعذب نفسك ؟ قلت : يا رسول الله إني أقوى ، قال : صم شهر الصبر ويوما بعده ، قلت : إني أقوى ، قال : صم شهر الصبر ويومين بعده ، قلت : إني أقوى ، قال : صم شهر الصبر وثلاثة أيام بعده ، وصم أشهر الحرم } رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه وهذا لفظه ) .

                                                                                                                                            الحديث أخرجه أيضا النسائي ، وقد اختلف في اسم الرجل الذي من باهلة ، فقال أبو القاسم البغوي في معجم الصحابة : إن اسمه عبد الله بن الحارث ، وقال : سكن البصرة وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثا ولم يسمه ، وذكر في موضع آخر هذا الحديث ، وكذلك قال ابن قانع في معجم الصحابة : إن اسمه عبد الله بن الحارث ، والراوي عنه مجيبة الباهلية بضم الميم وكسر الجيم ; وسكون الياء آخر الحروف وبعدها باء موحدة مفتوحة وتاء تأنيث ، ففي رواية أبي داود عن أبيها أو عمها : يعني هذا الرجل ، وهكذا قال أبو القاسم البغوي أنها قالت : حدثني أبي أو عمي .

                                                                                                                                            وفي رواية النسائي مجيبة الباهلي عن عمه ، وقد ضعف هذا الحديث بعضهم لهذا الاختلاف . قال المنذري : وهو متوجه وفيه نظر ; لأن مثل [ ص: 294 ] هذا الاختلاف لا ينبغي أن يعد قادحا في الحديث قوله : ( صم شهر الصبر ) يعني رمضان ، قوله : ( ويوما بعده ) إلى قوله : " وثلاثة أيام بعده " فيه دليل على استحباب صوم يوم أو يومين أو ثلاثة بعد شهر رمضان ، وقد تقدم أنه يستحب صيام ستة أيام فلا منافاة ; لأن الزيادة مقبولة . قوله : ( وصم أشهر الحرم ) هي شهر القعدة والحجة ومحرم ورجب .

                                                                                                                                            وفيه دليل على مشروعية صومها . أما شهر محرم ورجب فقد قدمنا ما ورد فيهما على الخصوص ، وكذلك العشر الأول من شهر ذي الحجة . وأما شهر ذي القعدة وبقية شهر ذي الحجة فلهذا العموم ، ولكنه ينبغي أن لا يستكمل صوم شهر منها ولا صوم جميعها ، ويدل على ذلك ما عند أبي داود من الحديث بلفظ : { صم من الحرم واترك ، صم من الحرم واترك ، صم من الحرم واترك } .




                                                                                                                                            الخدمات العلمية