الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      ولما نفوا ذلك عطفوا عليه مسببين عنه قولهم: فكفى بالله أي المحيط علما وقدرة شهيدا أي: هو يكفينا كفاية عظيمة جدا من جهة الشهادة التي \ لا غيبة فيه بوجه ولا ميل أصلا بيننا وبينكم في ذلك يشهد لنا وعلينا; ثم استأنفوا خبرا يصحح نفيهم فقالوا مؤكدين لأنهم كانوا يعتقدون علمهم: إن أي: إنا كنا أي: كونا هو جبلة لنا عن عبادتكم لنا أو لغيرنا مخلصة أو مشوبة; ولما كانت "إن" هي المخففة من الثقيلة تلقيت باللام الفارقة بينها وبين النافية فقيل: لغافلين لأنه لا أرواح فينا، فلم تكن بحيث نأمر بالعبادة ونرضاها فاللوم عليكم دوننا، وذلك افتداء من موقف الذل أو أنهم لما تخيلوا في الشركاء صفات عبدوها لأجلها وكانت خالية عنها صح النفي لأنهم عبدوا ذوات موصوفة بصفات لا وجود لها في الأعيان، وأيضا فإنهم ما عبدوا إلا الشياطين التي كانت تزين لهم ذلك وتغويهم، ويكون التقدير على ما دل عليه السياق: فزيلنا بينهم أي: منعناهم مما كانوا فيه من التواصل والتواد المقتضي للتناصر بعبادة الأوثان، فقال المشركون لشركائهم لما أبطأ عنهم نصرهم: إنا كنا نعبدكم من دون الله فأغنوا عنا كما كنا نذب عنكم وننصر دينكم وقال شركاؤهم ما كنتم إيانا تعبدون [ ص: 109 ] أي كشف لنا اليوم بتفهيم الله أنه ليس الأمر كما زعمتم وأنكم لم تخصونا بالعبادة حتى يلزمنا منعكم على أنكم لو خصصتمونا ما قدرنا على ذلك كما قال الشيطان: ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي فكفى أي: فتسبب عن نفينا لذلك على ما كشف لنا من العلم أن نقول: كفى بالله شهيدا بيننا وبينكم في ذلك، يشهد أنكم لم تخصوا أحدا منه ومنا بعبادة بل كنتم مذبذبين، وهذا كله إشارة إلى أن العبادة المشوبة لا اعتداد بها ولا يرضاها جماد لو نطق، وإن من استحق العبادة استحق الإخلاص فيها وأن لا يشرك به أحد، وأنه لا يستحق ذلك إلا القادر على كشف الكرب والمنع من أن يقطع بينه وبين متوليه وعابده قاطع; ولما كانت فائدة الشاهد ضبط ما قد ينساه المتشاهدان، عللوا اكتفاءهم بشهادة الله بقوله: إن كنا عن عبادتكم في تلك الأزمان لغافلين فأقروا لهم بما هو الحق مما كان يعلمه كل من له تأمل صحيح أنهم لم يشعروا بعبادتهم ساعة من الدهر قبل ساعتهم هذه، فهم أجدر الخلق بالاكتفاء بشهادة الشهيد لأنهم أسوأ حالا ممن يعلم المشهود به ويخشى النسيان، أو يقال: فقال المشركون لشركائهم: إنا كنا نعبدكم فهل أنتم ناصرونا أو شافعون لنا فنجونا مما وقعنا فيه وقال شركاؤهم ما كنتم إيانا [ ص: 110 ] وحدنا تعبدون أي: ما كنتم تخلصون لنا العبادة حتى يلزمنا أن نخلصكم كما أعلمنا بذلك الله ربنا وربكم المحيط بكل شيء علما فكفى أي: فتسبب عن ذلك أنه كفى بالله شهيدا بيننا وبينكم في ذلك، فكأن المشركين قالوا: قد تضمن كلامكم أنا عبدناكم على غير منهج الإخلاص، أفليس قد عبدناكم؟ أفلا تغنون عنا شيئا؟ فأجاب الشركاء بقولهم: إن كنا عن عبادتكم خالصة كانت أو مشوبة لغافلين فلا نقر لكم بعبادة أصلا وإن تيقنا الإخلاص لسلب العلم عنا بما كنا فيه من الجمادية فضلا عن أن نأمركم أو نرضى بعبادتكم على أنه لا غناء عندنا على تقدير من التقادير; أو يقال - وهو أحسن مما مضى -: وقال شركاؤهم لما تحققوا العذاب طلبا لأن يخفف عنهم منه بتوزيعه عليهم وعلى كل من عبدوه من غيرهم ما كنتم أيها العابدون لنا إيانا أي: خاصة تعبدون بل كنتم تعبدون أيضا غيرنا، وهذا يعم والله كل من يرائيه غيره بعمل وهو يعلم أنه يرائيه فيقره ولا ينكره عليه; ولما أفهموا بنفي العبادة بقيد الخصوص أنهم كانوا يعبدون معهم غيرهم، وكان المخلوق قاصر العلم غير محيطه بوجه بأحوال نفسه فكيف \ يعبدون بأحوال غيره، سببوا عن ذلك قولهم: فكفى بالله شهيدا بيننا وبينكم إن أي: في أنا كنا عن عبادتكم أي: في الجملة لغافلين والحاصل أن هذا ترجمة كلام الكفار وهو ناشئ منهم عن محض غلبة ودهش وفرط غم وندم وقلق، [ ص: 111 ] فلا يشترط أن يكون معناه على الوجه الأسد والطريق الأبلغ، فالإعجاز في نظمه، ومرادهم به أن يخفف عنهم من العذاب ولو بمشاركة من كانوا يعبدونهم معهم، فهو من وادي قوله تعالى: فهل أنتم مغنون عنا من عذاب الله من شيء فهل أنتم مغنون عنا نصيبا من النار فآتهم عذابا ضعفا من النار ونحوه: فما كان لكم علينا من فضل فذوقوا العذاب - والله أعلم.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية