الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
572 حديث ثالث عشر لأبي النضر

مالك ، عن أبي النضر مولى عمر بن عبيد الله ، أنه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما مات عثمان بن مظعون ومر بجنازته : ذهبت ، ولم تلبس منها بشيء .

التالي السابق


هكذا هو في الموطأ عند جماعة الرواة مرسلا مقطوعا ، لم يختلفوا في ذلك ، عن مالك ، وقد رويناه متصلا مسندا من وجه صالح حسن :

[ ص: 224 ] أخبرنا سعيد بن عثمان ، قال أخبرنا أحمد بن دحيم بن خليل ، قال : حدثنا عبد الله بن محمد بن عبد العزيز البغوي ، قال : حدثنا محمد بن عبد الوهاب ، قال : حدثنا محمد بن عبد الله بن عبيد بن عمير الليثي ، عن يحيى بن سعيد ، عن القاسم بن محمد ، عن عائشة قالت : لما مات عثمان بن مظعون ، كشف النبي - صلى الله عليه وسلم - الثوب عن وجهه ، وقبل بين عينيه ، وبكى بكاء طويلا ، فلما رفع على السرير ، قال : طوبى لك يا عثمان ، لم تلبسك الدنيا ، ولم تلبسها .

قال أبو عمر :

روى الثوري ، عن عاصم بن عبيد الله ، عن القاسم ، عن عائشة ، قالت : رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقبل عثمان بن مظعون - وهو ميت - حتى رأيت دموعه تسيل على خده .

وروى الثوري أيضا ، عن موسى بن أبي عائشة ، عن عبيد الله بن عبد الله ، عن ابن عباس ، وعائشة : أن أبا بكر قبل النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو ميت .

وأما قوله : ذهبت ولم تلبس منها بشيء ، فكان عثمان بن مظعون أحد الفضلاء العباد الزاهدين في الدنيا من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - المتبتلين منهم ، وقد كان هو وعلي بن أبي طالب ، هما أن يترهبا ، ويتركا النساء ، ويقبلا على العبادة ، ويحرما طيب الطعام على أنفسهما ، فنزلت ( يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ) . الآية .

ذكر معمر وغيره ، عن قتادة في هذه الآية ، قال : نزلت في علي بن أبي طالب وعثمان بن مظعون ، أرادوا أن يقلوا من الدنيا ويتركوا النساء ويترهبوا .

[ ص: 225 ] وذكر ابن جريج ، عن مجاهد قال : أراد رجال منهم : عثمان بن مظعون ، وعبد الله بن عمر إن يتبتلوا أو يخصوا أنفسهم ، ويلبسوا المسوح ، فنزلت هذه الآية إلى قوله ( واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون ) قال ابن جريج : وقال عكرمة : إن علي بن أبي طالب ، وعثمان بن مظعون ، وابن مسعود ، والمقداد بن عمرو ، وسالما مولى أبي حذيفة تبتلوا وجلسوا في البيوت ، واعتزلوا النساء ، ولبسوا المسوح ، وحرموا طيبات الطعام ، واللباس ، وهموا بالإخصاء ، وأدمنوا القيام بالليل وصيام النهار فنزلت ( ياأيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ) . الآية ، يعني : النساء والطعام واللباس .

وقال محمد بن المنكدر ، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إن الله أبدلنا بالرهبانية الجهاد والتكبير على كل شرف من الأرض .

وذكر سنيد ، حدثنا معمر بن سليمان ، عن إسحاق بن سويد ، عن أبي فاختة مولى جعدة بن هبيرة ، قال : كان عثمان بن مظعون يريد أن ينظر هل يستطيع السياحة ، وكانوا يعدون السياحة صيام النهار ، وقيام الليل ، ففعل ذلك حتى تركت المرأة الطيب والمعصفر والخضاب والكحل ، فدخلت على بعض أمهات المؤمنين ، ورأتها عائشة فقالت : ما لي أراك كأنك مغيبة ، فقالت : إني مشهدة كالمغيبة ، فعرفت ما عنت ، فجاء النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت : يا نبي الله إن امرأة عثمان ، دخلت علي ، فلم أر بها كحلا ، ولا طيبا ، ولا صفرة ، ولا خضابا ، فقلت : مالي أراك كأنك مغيبة ؟ فقالت : إني مشهدة كالمغيبة ، فعرفت ما عنت فأرسل إلى عثمان ، فقال : يا عثمان ، أتؤمن بما نؤمن ؟ قال : نعم ، بأبي أنت وأمي ، قال إن كنت تؤمن بما نؤمن ، فأسوة لك بنا وأسوة ما لدينا .

[ ص: 226 ] قال إسحاق بن سويد : فأتيت خراسان فصادفت يحيى بن معمر يحدث القوم بهذا الحديث ، لم يدع منه حرفا ، غير أنه قال في آخر حديثه : إن كنت تؤمن بما نؤمن ، فاصنع كما نصنع ، قال ذلك مرتين .

حدثنا أحمد بن قاسم ، وأحمد بن محمد ، وسعيد بن نصر قالوا : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا محمد بن إسماعيل ، قال : حدثنا نعيم بن حماد ، قال : حدثنا ابن المبارك ، قال : أخبرنا رشدين بن سعد ، قال : حدثني ابن أنعم ، عن سعد بن مسعود ، أن عثمان بن مظعون أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : ائذن لي في الاختصاء ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ليس منا من اختصى ، إن خصا أمتي الصيام ، قال : يا رسول الله ، ائذن لنا في السياحة ، قال : إن سياحة أمتي الجهاد في سبيل الله ، قال : يا رسول الله ، ائذن لنا في الترهب ، قال : إن ترهب أمتي الجلوس في المساجد انتظار الصلاة .

أخبرنا محمد بن إبراهيم بن سعد قراءة مني عليه أن أحمد بن مطرف حدثهم ، قال : حدثنا سعيد بن عثمان ، قال : حدثنا إسحاق بن إسماعيل الأيلي ، قال : حدثنا سفيان بن عيينة ، عن عمرو بن دينار ، عن الزهري ، عن خارجة بن زيد ، قال : لما قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة ، استهم المسلمون المنازل ، فطار سهم عثمان على امرأة منها ، يقال لها : أم العلاء ، فلما حضرته الوفاة ، قالت : شهادتي عليك أبا السائب : أن الله قد أكرمك ، قال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنا رسول الله ، ما أدري ما يفعل بي ، ولا به ، ولكن قد أتاه اليقين ، فنحن نرجو له الخير ، فشق ذلك على المسلمين مشقة شديدة ، وقالوا عثمان في فضله وصلاحه يقال له هذا ؟ فلما دفن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعض أهله ، قال : رد على سلفنا عثمان بن مظعون ، فقالوا سلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - السلف الصالح ، قالت أم العلاء : لا أزكي بعده أحدا أبدا .

[ ص: 227 ] قال أبو عمر :

اختلف العلماء في معنى قول الله عز وجل ( وما أدري ما يفعل بي ولا بكم ) ، فقال منهم قائلون : ذلك في الدنيا وأحكامها نحو الاختبار بالجهاد والفرائض من الحدود والقصاص ، وغير ذلك ، وقالوا : لا يجوز غير هذا التأويل ; لأن الله قد أعلم ما يفعل به وبالمؤمنين ، وما يفعل بالمشركين بقوله ( إن الأبرار لفي نعيم وإن الفجار لفي جحيم ) وقوله ( إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار ) وقوله ( إن الله لا يغفر أن يشرك به ) وقوله ( إني على بينة من ربي وكذبتم به ) .

وروى وكيع ، عن أبي بكر الهذلي ، عن الحسن في قوله ( وما أدري ما يفعل بي ولا بكم ) . قال : في الدنيا .

وقال آخرون : بل ذلك على وجهه في أمر الدنيا ، وفي ذنوبه ، وما يختم له من عمله ، حتى نزلت ( ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ) ففرح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال : هي أحب إلي مما طلعت عليه الشمس وهذا معنى تفسير قتادة والضحاك والكلبي ، وروى مثله يزيد بن إبراهيم التستري ، عن الحسن .




الخدمات العلمية