الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                الولاية الثانية : الوزارة . قال ابن بشير : يجوز التفويض في جميع الأمور إلى وزير ، ويختص عن الخليفة بثلاثة أشياء : لا يعهد لمن يشاء أن يستعفى من الإمامة ، ولا يعزل من قلده الإمام ، وأصلها قوله تعالى : ( واجعل لي وزيرا من أهلي هارون أخي اشدد به أزري وأشركه في أمري ) قال الماوردي : الوزارة قسمان ، وزارة تفويض ووزارة تنفيذ ، فالأول من جعل له الاجتهاد في الأمور ، وتشترط فيه شروط الإمامة إلا النسب ، لأن عموم الاجتهاد يحتاج إلى ذلك ، وعقدها بصريح لفظ الخليفة بعموم النظر والنيابة ، فإن اقتصر على عموم النظر فهو ولي عهد ولا وزير ، أو على النيابة فقد أبهم التنفيذ والتفويض فلا تنعقد ، واللفظ المعتبر : قلدتك ما إلي نيابة عني ، ويقول : استوزرتك تعويلا على نيابتك ، فإن قال : نب عني ، احتمل الانعقاد وعدمه ؛ لأنه أمر لا عقد ، مع أنه ليس يراعى في الخلفاء والملوك ما يراعى في غيرهم لاستثقالهم الكلام ، فربما اكتفوا بالإشارة ، [ ص: 30 ] ولقلة مباشرتهم العقود ، وقلدتك وزارتي أو الوزارة ، لا تفيد وزارة التفويض ، حتى يريد ما يستحق به التفويض ، لأن موسى عليه السلام زاد : ( اشدد به أزري وأشركه في أمري ) قال ابن بشير : الصرائح أربعة : وليتك ، وقلدتك ، واستخلفتك . واستنبتك ، وكنايته سبعة : اعتمدت عليك ، وعولت عليك ، ورددت إليك ، وجعلت ، وفوضت إليك ، ووكلت إليك ، وأسندت إليك ، فتحتاج هذه لما ينفي عنها الاحتمال ، قال الماوردي : وعلى هذا الوزير مطالعة الإمام بما تصرف ، لئلا يكون إماما ، وعلى الإمام تصفح تصرفاته ؛ لأنه من جملة رعيته ، ويجوز له مباشرة الجهاد ، وولاية الحكام ، وغير ذلك ، وله الاستنابة في ذلك ، لأن شروط جميع ذلك مشترطة في أهليته ، ووزير التنفيذ هو الذي ينفذ ما دبره الإمام ، فهو واسطة بين الإمام والرعية ، يبلغ ما دبره الإمام ويعرض عليها ما حدث من الأمور ، ولا يفتقر إلى تقليد بل الإذن ، ولا يشترط فيه الحرية ولا العلم ، لأنه يتصرف ، بل مبلغ ، بل اشترط فيه سبعة أوصاف : الأمانة . والصدق . وقلة الطمع ، وعدم العداوة بينه وبين الناس ، والذكورة ، والفطنة ، وأن لا يكون مبتدعا ، فإن شارك في الرأي اشترطت فيه الحكمة ، والتجربة ، ومعرفة العواقب ، ويجوز أن يكون ذميا ، ويجوز أن يكون اثنين على الاجتماع والافتراق ، بخلاف وزير التفويض ، لأن عموم النظر يمنع من ذلك كإمامين ، ويجوز مع وزير التفويض وزير تنفيذ ، ويجوز لوزير التفويض الاستنابة عنه بخلاف الآخر . وإذا [ ص: 31 ] فوضت الأقاليم إلى ولاتها - كأهل زماننا - جاز لكل ملك أن يوزر كالخليفة في الشروط المتقدمة .

                                                                                                                فائدة ، في اشتقاق الوزير ثلاثة أوجه : من الوزر بتحريك الزاي المنقوطة ، وهو الملجأ ، ومنه قوله تعالى : ( كلا لا وزر ) وملك يلجأ إليه ، أو من الأزر لقوله تعالى : ( اشدد به أزرى ) أو من الوزر وهو الظهر ، لأنه يقوى بالوزير كقوة البدن بالظهر .

                                                                                                                الإمارة الثالثة : الإمارة على البلاد ، قال الماوردي : هي عامة وخاصة ، فالعامة استكفاء واستيلاء . فالاستكفاء ما عقد على اختيار . والاستيلاء ما عقد عن اضطرار ، فيفوض في الاستكفاء النظر في بلد أو إقليم في جملة ما يتعلق به ، وتتعين فيه شروط وزارة التفويض لعموم النظر في ذلك العام ، ولفظه : قلدتك ناحية كذا إمارة على أهلها ، ونظرا في جميع ما يتعلق بها ، وللوزير تصفح الأمر ، وللأمير أن يستوزر وزير تفويض بإذن الخليفة ، ولا ينعزل الأمير بموت الخليفة بخلاف الوزير ، لأنه نائب الخليفة ، والأمير نائب المسلمين وهم باقون . والإمارة الخاصة ، هي تدبير الجيوش ، وسياسة الرعية ، وحماية البيضة ، والذب عن الحريم ، فليس له التعرض للقضاء والأحكام وجباية الخراج ، والزكاة ، ولا إقامة حد فيه خلاف للعلماء ، ولا ما يحتاج فيه إلى بينة لأجل المنازعة ؛ لأنها من الأحكام الخارجة عن ولايته ، وغيره من الحدود التي هي حق لله ، فهو أولى بها من الحاكم ؛ لأنه به إليه قانون السياسة العامة ، وهو [ ص: 32 ] أحق بإمامة الجمع والأعياد من القضاة عند ( ش ) ، والقضاة عند ( ح ) لأنهم أهل العلم ، ويعتبر في شروط هذه الإمارة شروط ولاية التنفيذ ، وشرطان : الإسلام والحرية لما تضمنتها من الولاية على أمور دينية ، وليس على هذين الأميرين مطالعة الخليفة بما أمضياه ، إلا أن يحدث غير معهود .

                                                                                                                وإمارة الاستيلاء : أن يستولي الأمير بقوته وقهره على بلاد فيفوض إليه . فهو متصرف استيلائه ، والخليفة منفذ لذلك ليخرج عن الفساد وعن الحظر للإباحة ، ويجب هذا التنفيذ لما فيه من المصالح الدينية ، وإقامة حرمة الإمامة ، وظهور الطاعة ، واجتماع الكلمة ، فإن لم يكن فيه شروط الاختيار فيقلد لدفع فساد العناد ، وليس له أن يوزر ويفوض .

                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                الخدمات العلمية