الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                الولاية السادسة : ولاية الكشف عن التظالم ، قال الماوردي : يشترط في متوليها جلالة القدر ، ونفوذ الأمر ، وعظيم الهيبة ، والعفة والورع ، لأنه يحتاج في منصبه إلى سطوة الحماة وتثبت الأمر ، وتثبت القضاة ، فلا بد من صفة الفريقين له ، فيمزج قوة السلطنة بنصف القضاة ، وأول من أفرد للظلامات يوما عبد الملك بن مروان وكان يرد مشكلاتها إدريس الأول ذي لهيبة الناس من عبد الملك ، ثم تفاقمت المظالم ، وكذلك ينبغي أن يكون لها يوم معلوم ليقصده الناس ، وليكن الناظر في المظالم سهل الحجاب ، ونوه الأصحاب ، ويحتاج لخمسة في مجلسه لا بد له منهم ، الحماة لجنف القوي العسوف ، والقضاة ليعلموه ما يثبت عندهم من الحقوق ، والفقهاء ليراجعوه فيما أشكل من الوقائع ، والكتاب ليثبتوا ما جرى بين الخصوم ، والشهود ليشهدوا على ما تحرر من حق وحكم به .

                                                                                                                [ ص: 39 ] والفرق بين نظر المظالم والقضاة من عشرة أوجه ، له من القوة والهيبة ما ليس لهم ، وهو أفسح مجالا منهم ، ويستعمل فيه من الإرهاب وكشف الأشياء بالأمارات الدالة وشواهد الأحوال اللائحة مما يؤدي إلى ظهور الحق بخلافهم ، ويقاتل من ظهر ظلمه بالتأديب بخلافهم ، ويتأنى في ترداد الخصوم عند اللبس له ، ليمعن في الكشف بخلافهم إذا سألهم أحد الخصمين فصل الحكم لا يؤخره ، وله رد الخصوم إذا أعضلوا إلى وساطة الأمناء ليفعلوا بينهم صلحا عن تراض ، وليس القصاص برضا الخصمين ، وله أن يفسح في ملازمة الخصمين إذا وضحت أمارات التجاحد ، ويأذن في إلزام الكفالة فيما يسوغ فيه التكفل لينقاد الخصوم إلى التناصف ويتركوا التجاحد ، بخلافهم ، ويسمع المسترين بخلافهم ، ويحلف الشهود إن ارتاب فيهم بخلاف القضاة ، ويبتدئ باستدعاء الشهود ويسرهم عما عندهم في القضية بخلافهم لا يسمعون البينة حتى يريد المدعي إحضارهم : أو مسألته لها .

                                                                                                                فرع

                                                                                                                قال الماوردي من الشافعية . إذا ظهر كتاب فيه شهود معدلون حاضرون فله الإنكار على الجاحد بحسب شواهد أحواله ، وإن لم يكونوا معدلين أو أحضرهم وسبر أحوالهم ، فإن وجدهم من أهل الصيانات قبلهم ، أو أراد أن لا يعول عليهم ، ولكن يولي الإرهاب عن الخصم ويسأله ما سبب وضع يده ؟ أو متوسطين ، فله إحلافهم قبل الشهادة وبعدها ، فإن كان في الكتاب شهود موتي يعدلون ، والكتاب موثوق بصحته ، فيرهب على المدعى عليه حتى يضطره للصدق ويسأله عن دخول يده لعل في جوابه ما يوضح الحق بكشف من الجيران ، فإن لم يتضح مع هذا كله رده إلى وساطة رئيس مطاع له بهما معرفة وبما يتنازعاه ليضطرهما بكثرة التردد إلى الصدق والصلح ، فإن تعسر أمرهما ، ثبت بما يوجه حكم القضاة ، وإن كان مع المدعي خط [ ص: 40 ] المدعى عليه ، سأل المدعى عليه ، فإذا اعترف بخطه ، سأله عن صحة مضمونه ، فإن اعترف ألزمه بإقراره ، وإن لم يعترف بصحة مضمونه فقيل : يحكم عليه بخطه لأنه - ظاهر حال ، والمحققون قالوا : بل يسأله فإن قال : هو فرض وما قبضته فيقوي الإرهاب ، ثم يرد لواسطة ، فإن انفصلا وإلا فحكم القضاة ، فإن أنكر الخط أمر بمن يختبر الخط بخطوطه التي كتبها وتكفلها من كثرة الكتابة ، ويمنع من التصنع فيها ، فإن تشابهت بخطه حكم به عليه على قول من يجعل الخط اعترافا ، ولا من يرى ذلك يرى كثرة الإرهاب عليه ، فإن كان خطه منافيا ، رجع الإرهاب على المدعي ، ثم يردان إلى الواسطة على ما تقدم ، فإن أتى بحساب يتضمن الدعوى ، وهو حساب الطالب ، وهو منتظم لا شبهة فيه ، فيرهب بحسب شواهد الحال ، ثم يردان للواسطة ، وإن كان غير منتظم طرحه ، أو حساب المدعى عليه وهو منسوب إلى خطه ، يسأل : أهو خطك ؟ فإن اعترف سئل عن صحة مضمونه فإن اعترف ألزمه بإقراره ، وإن لم يذكر صحته ، واعترف أنه خطه : فقيل : يحكم عليه كما تقدم في الخط ، بل الثقة به أقوى من الخط المرسل ، لأن الحساب لا يثبت فيه قبض ما لم يقبض بخلاف ، وقال الجمهور : لا يحكم عليه بالخط ولا بالحساب ، بل الإرهاب والرد إلى الواسطة إلى حكم القضاة ، وإن كان الحساب منسوبا إلى خط كاتبه سئل عنه المدعي عليه قبل كاتبه ، فإن أنكر سئل كاتبه وأرهب ، فإن أنكر ضعفت الشبهة ، وإن أقر صار شاهدا على المدعى عليه . هذا كله فيما يقوي الدعوى ، فإن اقترن بالدعوى ما يضعفها وهو إما كتاب يعارضها شهوده ، وحضور معدلون ، فيرهب المدعي بحسب حاله ، وإن لم يقترن بالدعوى ما يقويها ولا ما يضعفها ، لكن حصلت غلبة ظن ، صدق المدعي مع خلوه عن حجته بأن يكون مستعلانا قليل ، والمدعي ذا بأس وقدرة ، وقد ادعى عليه غضب عقار ، ومثله لا [ ص: 41 ] يغصب مثل هذا ، أو يكون المدعي مشهورا بالصدق ، وخصمه بخلافه ، أو يستويان في الأحوال ، غير أنه للمدعى عليه من غير حكم ، ويسأله عن سبب دخول يده ، فإن غلب على الظن صدق المدعى عليه بالأمارات المتقدمة ، فلا تسمع الدعوى إلا بعد ذكر السبب ، كما قاله مالك في القضاء ، ويبالغ في الكشف حتى يظهر الحق ، فإن استوت الحالان في الظنون سوى بينهما في الغلظ والإرهاب والكشف ، فإن لم يظهر الحق رد إلى الواسطة ، فإن انفصلا وإلا فحكم القضاة .

                                                                                                                فرع

                                                                                                                قال : إذا رفعت الجرائم كالسرقة والزنى ونحوهما لقاض لم يسمع لا يحبس المتهم بكشف استبراء ، ولا يأخذه بأسباب الإقرار إجبارا ، ولا يسمع الدعوى إلا محررة بشروطها وإلا فيروي الأحاديث ، امتاز على القضاة بتسعة أوجه : فيسمع قذف المتهم على أعوان الإمارة من غير تحقيق الدعوى المفسرة ، ويرجع إلى قولهم : هل هم من أهل هذه التهمة أم لا ، فإن نزهوه أطلقه ، أو قذفوه بالغ في الكشف ، بخلاف القضاء ) . . . ) شواهد الحال بأن يكون المتهم بالزنا متصنعا للنساء ، أو بالسرقة من أهل الزعارة ، وليس ذلك للقضاة ، يعجل حبس المتهم شهرا للكشف ، أو يحبس ما يراه بخلاف القضاة ، ويجوز له مع قوة التهمة ضرب المتهم ضرب تعزير لا ضرب حد ليصدق ، فإن أقر وهو مضروب : اختبرت حاله فإن ضرب ليقر فلا يعتبر إقراره تحت الضرب ، أو ليصدق وأعاد إقراره بعد الضرب أخذ بالإقرار الثاني ، ويجوز العمل بالإقرار الأول مع كراهة ، وليس كذلك القضاة ، وله فيمن تكررت منه الجرائم ولم ينزجر بالحدود استدامة حبسه إذا أضر الناس بجرائمه حتى يموت ، [ ص: 42 ] ويقوته ويكسوه من بيت المال ، بخلاف القضاة ، وله إحلاف المتهم لاختبار حاله ، ويملك عليه الكشف عن أمره ، ويحلفه بالطلاق والصدقة والعتاق كأيمان بيعة السلطان ، ولا يحلف قاض أحدا في غير حق ، ولا يحلف إلا باليمين بالله ، وله أخذ المحكوم بالتوبة قهرا ، ويظهر له من الوعيد ما يقوده إليها طوعا ، ويتوعده بالقتل فيما لا يجب فيه القتل ؛ لأنه إرهاب لا تحقيق ، ويجوز أن يحقق وعيده بالأدب دون القتل ، بخلاف القضاة ، وله سماع شهادات أهل المهن ومن لا يسمعه القاضي إذا كثر عددهم ، وله النظر في المواثبات ، وإن توجب غربا ولا حدا ، فإن لم يكن بواحد منهم أثر ، سمع قول من سبق بالدعوى ، أو به أثر : فقيل : يسمع أولا ولا يرعى السبق ، والأكثرون على سماع السابق أولا ، والمبتدئ بالمواثبة أعظم جرما وتأديبا ، ويختلف تأديبهما باختلافهما في الجرم ، وباختلافهما في الهيئة والتصون ، وإن رأى المصلحة في قمع السفلة إشهارها بجرائمها فعل ، فهذه الوجوه التسعة يقع بها الفرق بين الأمراء والقضاة قبل ثبوت الجرائم ، ويستوون بعد ثبوتها في إقامة الحدود .

                                                                                                                قاعدة : يقدم في كل ولاية من هو أقوم بصلاحها ، فيقدم في الحروب من هو أعلم بسياسة الجيوش ومكائد الحروب ، وفي القضاء من هو أعلم بالأحكام ووجوه الحجاج ، وفي الأيتام من هو أعلم بقيمة المال واستصلاح الأطفال ، وفي إقامة الصلوات من هو أعلم بأحكام الصلاة وأقرب للشفاعة بدينه وورعه ، وقد يكون المقدم في باب مؤخرا في باب كالنساء مقدمات في الحضانة ، ومؤخرات في الجهاد والصلاة ، لأن تزيد شفقتهن وصبرهن يقتضي مزيد صلاحهن للأطفال ومصالح العيال ، فهذه القاعدة تقدم في جميع هذه الولايات على تباينها من هو أقوم بها .

                                                                                                                قاعدة : المصالح ثلاثة : واقع في مواقع الضرورات ، وفي الحاجات ، وفي التتمات ، وقد تقدم بسطة في مقدمة الكتاب ، فاشتراط العدالة ضروري في الشهود [ ص: 43 ] صونا للدماء والأموال عن كذب أرباب الأمر ، أو في الإمامة حاجة لأنها شفاعة ، والحاجة داعية إلى صلاح حال الشفيع عند المشفوع عنده ، وتتمة في ولاية النكاح صونا للحرائر عن الوضع في المواطن الدنية ، ولا يضطر إليها ، لأن حال القرابة يمنع من الإضرار والرمي في العار ، فلهذه القاعدة اشترطت العدالة في الولايات ، ولم يشترطها بعضهم في الإمامة العظمى لغلبة الفسوق على ولاتها ، فلو اشترطت لتعطلت التصرفات الموافقة للحق في تولية من يولونه من القضاة والولاة ، وأخذ ما يأخذونه ، وبذل ما يعطونه ، وفي هذا ضرر عظيم أفظع من فوات عدالة السلطان ، ولما كان تصرف القضاة أعم من تصرف الأوصياء وأخص من تصرف الأئمة ، اختلف في إلحاقهم بهم أو بالأوصياء على الخلاف في عدالة الوصي . وإذا نفذت تصرفات البغاة [ . . . ] من القطع بعدم ولايتهم ، فأولى نفوذ تصرفات الولاة والأئمة مع غلبة الفجور عليهم ، مع ندرة البغاة وعموم الضرورة للولاة .

                                                                                                                قاعدة : كل من ولي ولاية الخلافة فما دونها إلى الوصية لا يحال له أن يتصرف إلا بجلب مصلحة أو درء مفسدة ، لقوله _ صلى الله عليه وسلم _ : ( من ولى من أمور أمتي شيئا ثم لم يجهد لهم ولم ينصح فالجنة عليه حرام ) ولقوله تعالى : ( ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن ) وكذلك عند ( ش ) لا يبيع الوصي صاعا بصاع ، ولا فائدة فيه ، ولا للخليفة أن يفعل ذلك في أموال المسلمين ، ويجب عليه عزل الحاكم إذا ارتاب فيه دفعا لمفسدة الريبة ، ويعزل المرجوح عند وجود الراجح تحيلا لمزيد المصلحة ، واختلف في عزل أحد المتساويين بالآخر ، فقيل : يمتنع لأنه ليس أصلح [ ص: 44 ] للأئمة ، وقيل : ولأنه يؤذي المعزول بالعزل واتهم من الناس . ولأن ترك الفساد أولى من تحصيل الصلاح للمتولي ، وأما الإنسان في نفسه فيجوز له ذلك فيما يختص به ، حصلت المصلحة أم لا ، ولا يشكل بأنا لو جوزنا هذا [ . . . . ] من الحجر عليه بالرشد ، لأنا لا نحجر بمن ( تعرض عن المصلحة يقف كان ) ، بل ضابطه : أن كل تصرف خرج عن العادة لم يستجلب به حدا شرعيا وقد تكرر منه فإنه يحجر عليه ، فللقيد الثاني احترازا من استجلاب حد الشراء والمضاجر ، والثالث احترازا عمن رمى درهما في البحر فإنه لا يحجر عليه حتى يتكرر منه تكررا يدل على سفهه ، فعلى هذه القاعة يتخرج اختلاف الأحكام في الخصوم والمتهمين والجرائم وغيرها .

                                                                                                                قاعدة : التكاليف قسمان : عام وخاص . فالعام كالصلاة . والثاني كالحدود ، والتعازيز ، وتولية القضاة ونحوه ، فهذا خاص بالأئمة ونوابهم ، فلا يجوز لأحد أن يفعله إلا بإذنهم ، فإن فرطوا فيه قال إمام الحرمين في كتابه المسمى بالغياثي : إن شغر الزمان عن الإمام انتقلت أحكامه إلى أعلم أهل ذلك الزمان ، لأن قضية الدليل استوى الناس ، لكن لما كان ذلك يؤدي للتشاجر خص به أفضلهم وهو الإمام ، فإذا تعذر ذلك انتقل لأعلمهم دفعا للمفاسد بحسب الإمكان علم أتم الطريق ، فهذه القاعدة مجمع عليها لا يجوز لأحد التعدي على ولاة الأمور فيما فوض إليهم من الأمر ، ويجب عليهم - أعني ولاة الأمور - بذل الاجتهاد في هذه الأمور ، وهي كثيرة مذكورة في أبواب الفقه من أموال الغائبين والصبيان والمجانين والنساء [ . . . ] والحجر على المفلسين [ ص: 45 ] والمبذرين والتحري في بيت مال المسلمين بالخيانة والتصرف وقسمة الغنائم والزكاة ، وكذلك كثير يعرف في مواضعه .

                                                                                                                تمهيد : ما تقدم من التوسعة في أحكام ولاة المظالم وأمراء الجرائم ليس مخالفا للشرع بل تشهد له القواعد من وجوه : أحدها أن الفساد قد كثر وانتشر بخلاف العصر الأول ، ومقتضى ذلك اختلاف الأحكام بحيث لا يخرج عن الشرع بالكلية لقوله _ صلى الله عليه وسلم _ ( لا ضرر ولا ضرار ) وترك هذه القوانين يؤدي إلى الضرر ، ويؤكد ذلك جميع النصوص الواردة بنفي الحرج ، وثانيهما أن المصلحة المرسلة قال بها مالك وجمع من العلماء ، وهي المصلحة التي لم يشهد الشرع باعتبارها ولا بإلغائها وهذه القوانين مصالح مرسلة في أقل مراتبها ، وثالثها : أن الشرع شدد في الشهادة أكثر من الرواية لتوهم العداوة ، فاشترط العدد والحرية ووسع في السلم والقراض والمساقاة وسائر العقود المستثناة لمزيد الضرورة ، ولم يقبل في الزنى إلا أربعة وقبل في القتل اثنين والدماء أعظم ، لكن المقصود الستر ، ولم يحرج الزوج الملاعن في البينة خير في أيمانه ، ولم يجب عليه حد بذلك بخلاف سائر القذفة ، لشدة الحاجة في الذب عن الأنساب ، وصون العيال والفرش عن أسباب الارتياب ، وهذه المباينات كثيرة في الشرع لاختلاف الأحوال ، فكذلك ينبغي أن يراعي اختلاف الأحوال في الأزمان ، فتكون المناسبة الواقعة في هذه القوانين مما شهدت القواعد لها بالاعتبار ، فلا تكون مرسلة ، بل على رتبة فتلحق بالقواعد الأصلية ، ورابعها : أن كل حكم في هذه القوانين ورد دليل يخصه ، كما ورد في الصحيح : ( أن رسول الله _ صلى الله عليه وسلم _ في غزوته وجد رجلا اتهمه بأنه جاسوس للعدو فعاقبوه حتى أقر ) وأما قبول قول المستورين فهو [ ص: 46 ] الواقع في تقليد عمر _ رضي الله عنه _ لأبي موسى الأشعري ، فقال فيه : المسلمون عدول بعضهم على بعض ، إلا مجلودا في حد ، أو مجربا عليه شهادة زور ، أو ظنينا في ولاء أو نسب ، وقد أخذ بهذا ( ح ) وأثبت الحكم في القضاة به فأولى في المظالم والجرائم ، ونص ابن أبي زيد في النوادر على أنا إذا لم نجد في جهة إلا غير العدول أقمنا أصلحهم وأقلهم فجورا للشهادة عليهم ، ويلزم مثل ذلك في القضاة وغيرهم لئلا تضيع المصالح ، وما أظنه يخالفه أحد في هذا ، فإن التكليف مشروط بالإمكان ، وإذا جاز نصب الشهود فسقة لأجل عموم الفساد جاز التوسع في أحكام المظالم والجرائم لأجل كثرة فساد الزمان .

                                                                                                                وخامسها : أنا لا نشك أن قضاة زماننا وشهودهم وولاتهم وأمناءهم لو كانوا في العصر الأول ما ولوا ولا حرج ، وولايتهم حينئذ فسوق ، ظن ولانهم ، فإن خيار زماننا هم أراذل ذلك الزمان ، وولاية الأراذل فسوق ، فقد قال الحسن البصرى : أدركت أقواما كانت نسبة أحدنا إليهم كنسبة البقلة إلى النخلة . وهذا زمان الحسن فكيف زماننا ، فقد حسن ما كان قبيحا واتسع ما كان ضيقا ، واختلفت الأحكام باختلاف الأزمان ، ويعضد ذلك من القواعد الأصلية : أن الشرع وسع للموقع في النجاسة ، وفي زمن المطر في طينه ، وأصحاب القروح ، وجوز ترك أركان الصلاة وشروطها إذا ضاقت الحال عن إقامتها ، وكذلك كثير في الشرع ، وكذلك قال ( ش ) _ رضي الله عنه _ : ما ضاق شيء إلا اتسع . يشير إلى هذه المواطن . فكذلك إذا ضاق علينا الحال في درء المفاسد اتسع كما اتسع في تلك المواطن . وسادسها أن من لطف الله بعباده ( أن ) يعاملهم معاملة الوالد لولده فالطفل لضعف حاله يغذى باللبن ، فإذا [ ص: 47 ] اشتد نقل إلى لطيف الأغذية ، فإذا اشتد نقل إلى غليظها ، فإن مرض عومل بمقتضى مرضه ، وهذه سنة الله تعالى في خلقه . فأول بدء الإنسان في زمن آدم كان الحال ضعيفا ضيقا فأبيحت الأخت لأخيها ، وأشياء كثيرة وسع فيها ، فلما اتسع الحال وكثرت الذرية ، وعتت النفوس حرم ذلك في زمان بني إسرائيل ، وحرم السبت والشحوم والإبل وأمور كثيرة ، وفرض عليهم خمسون صلاة وتوبة أحدهم بالقتل لنفسه ، وإزالة النجاسة بقطعها إلى غير ذلك من التشديدات ، ثم جاء آخر الزمان فهرمت الدنيا ، وضعف الجسد وقل الحبيب ، ولان النفوس ، أحلت تلك المحرمات وعملت الصلوات خمسا ، وخففت الواجبات ، فقد اختلفت الأحكام والشرائع بحسب اختلاف الأزمان والأحوال ، وظهر أنها سنة الله في سائر الأمم ، وشرع من قبلنا شرع لنا ، فيكون ذلك بيانا على الاختلاف عند اختلاف الأحوال في زماننا ، وظهر أنها من قواعد الشرع ، وأصول القواعد ، ولم يكن بدعا عما جاء به الشرع .

                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                الخدمات العلمية