الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين ، أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون ، وكذلك نفصل الآيات ولعلهم يرجعون هذه الآيات بدء سياق جديد في شئون البشر العامة المتعلقة بهداية الله لهم ، بما أودع في فطرتهم ، وركب في عقولهم من الاستعداد للإيمان به وتوحيده وشكره ، في إثر بيان هدايته لهم بإرسال الرسل ، وإنزال الكتب في قصة بني إسرائيل ، فالمناسبة بين هذا وما قبله ظاهرة ; ولذلك عطف عليه عطف جملة على جملة ، أو سياق على سياق ، قال تعالى : .

                          وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم الظهور جمع ظهر وهو العمود الفقري لهيكل الإنسان الذي هو قوام بنيته ، ومركز النخاع الشوكي الذي عليه مدار حياته ، فيصح أن يعبر به عن جملة وجوده الجسدي الحيواني ، والذرية سلالة الإنسان من الذكور والإناث ، قرأ نافع وأبو عمرو وابن عامر ويعقوب ( ذرياتهم ) بالجمع والباقون بالإفراد ومعناهما واحد ; فإن المفرد المضاف يفيد العموم ، ورسمها في المصحف الإمام واحد ، وقوله : من ظهورهم بدل من بني آدم بمعناه ، والجمهور على أنه بدل البعض من الكل ، وهو الظاهر إذا لم يرد بهذا البعض ذلك الكل ، وقال أبو البقاء : هو بدل اشتمال .

                          والمعنى : واذكر أيها الرسول في أثر ذكر أخذ ميثاق الوحي على بني إسرائيل خاصة ، ما أخذه الله من ميثاق الفطرة والعقل على البشر عامة ، إذ استخرج من بني إسرائيل ذريتهم بطنا [ ص: 326 ] بعد بطن ، فخلقهم الله على فطرة الإسلام ، وأودع في أنفسهم غريزة الإيمان ، وجعل من مدارك عقولهم الضرورية أن كل فعل لا بد له من فاعل ، وكل حادث لا بد له من محدث ، وأن فوق العوالم الممكنة القائمة على سنة الأسباب والمسببات ، والعلل والمعلولات ، سلطانا أعلى على جميع الكائنات ، هو الأول والآخر هو المستحق للعبادة وحده - وقد بسطنا هذه المسألة - وهذا معنى قوله تعالى : وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أي : أشهد كل واحد من هذه الذرية المتسلسلة على نفسه بما أودعه في غريزته ، واستعداد عقله قائلا قول إرادة وتكوين ، لا قول وحي وتلقين ، ألست بربكم ؟ فقالوا كذلك بلغة الاستعداد ولسان الحال ، لا بلسان المقال : بلى أنت ربنا والمستحق وحده لعبادتنا ، فهو من قبيل قوله تعالى بعد ذكر خلق السماء : فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين ( 41 : 11 ) وهذا النوع من التعبير والبيان يسمى في عرف علماء البلاغة بالتمثيل ، وهو أعلى أساليب البلاغة ، وشواهده في القرآن وكلام البلغاء كثيرة .

                          بين سبحانه سبب هذا الإشهاد وعلته فقال : أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين أي : فعلنا هذا منعا لاعتذاركم أو احتجاكم يوم القيامة بأن تقولوا : إذا أنتم أشركتم به : إنا كنا غافلين : عن هذا التوحيد للربوبية ، وما يستلزمه من توحيد الإلهية بعبادة الرب وحده . والمراد أنه تعالى لا يقبل منهم الاعتذار بالجهل .

                          أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم جاهلين ببطلان شركهم ، فلم يسعنا إلا الاقتداء بهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون باختراع الشرك فتجعل عذابنا كعذابهم ، مع عذرنا بتحسين الظن بهم . والمراد : أن الله تعالى لا يقبل منهم الاعتذار بتقليد آبائهم وأجدادهم ، كما أنه لم يقبل منهم الاعتذار بالجهل ، بعد ما أقام عليهم من حجة الفطرة والعقل .

                          وكذلك نفصل الآيات ولعلهم يرجعون أي : وبمثل هذا التفصيل البليغ نفصل لبني آدم الآيات والدلائل ; ليستعملوا عقولهم ، ولعلهم يرجعون بها عن جهلهم وتقليدهم . والآيات تدل على أن من لم تبلغه بعثة رسول لا يعذر يوم القيامة بالشرك بالله تعالى ، ولا بفعل الفواحش والمنكرات التي تنفر منها الفطرة السليمة ، وتدرك ضررها وفسادها العقول المستقلة ، وإنما يعذرون بمخالفة هداية الرسل فيما شأنه ألا يعرف إلا منهم . وهو أكثر العبادات التفصيلية .

                          هذا ما يتبادر إلى الفهم من الآيات لذاتها .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية