الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
الباب الثاني: في كيفية الأعمال الظاهرة من الصلاة والبداءة بالتكبير وما قبله .

ينبغي للمصلي إذا فرغ من الوضوء ، والطهارة من الخبث في البدن والمكان والثياب ، وستر العورة من السرة إلى الركبة أن ينتصب قائما متوجها إلى القبلة ويراوح ، بين قدميه ، ولا يضمهما فإن ذلك مما كان يستدل به على فقه الرجل وقد نهى صلى الله عليه وسلم عن الصفن والصفد في الصلاة والصفد هو اقتران القدمين معا ، ومنه قوله تعالى : مقرنين في الأصفاد والصفن هو رفع إحدى الرجلين ، ومنه قوله عز وجل : الصافنات الجياد هذا ما يراعيه في رجليه عند القيام ويراعي في ركبتيه ومعقد نطاقه الانتصاب وأما رأسه إن شاء تركه على استواء القيام وإن شاء أطرق والإطراق أقرب للخشوع وأغض للبصر وليكن بصره محصورا على مصلاه الذي يصلي عليه فإن لم يكن له مصلى ، فليقرب من جدار الحائط أو ليخط خطا فإن ذلك يقصر مسافة البصر ويمنع تفرق الفكر وليحجر على بصره أن يجاوز أطراف المصلى وحدود الخط وليدم على هذا القيام كذلك إلى الركوع من غير التفات .

هذا أدب القيام فإذا استوى قيامه واستقباله وإطراقه كذلك فليقرأ قل أعوذ برب الناس تحصنا به من الشيطان ثم ليأت بالإقامة وإن كان يرجو حضور من يقتدي به فليؤذن أولا ثم ليحضر النية وهو أن ينوي في الظهر مثلا ويقول بقلبه : أؤدي فريضة الظهر لله ليميزها بقوله أؤدي : " " عن القضاء وبالفريضة عن النفل ، وبالظهر عن العصر وغيره ولتكن معاني هذه الألفاظ حاضرة في قلبه ، فإنه هو النية والألفاظ مذكرات وأسباب لحضورها .

التالي السابق


(الباب الثاني في كيفية الأعمال الظاهرة من الصلاة)

وهي هيآتها وآدابها وشروطها (والبداءة بالتكبير وما قبله) ، ونشرح ذلك بأقصى ما انتهى إليه فهمنا وعلمنا على الوجه المرعي متتبعا لسياق المصنف، مع الإعراض عن نقل الأقوال في كل شيء من ذلك، إذ في ذلك كثرة، ويخرج عن حد الاختصار والإيجاز المقصود، (فينبغي للمصلي) أي: المريد للصلاة (إذا فرغ من الوضوء، والطهارة من الخبث) بالوجه الذي تقدم ذكره (في البدن والمكان والثياب، وستر العورة من السرة إلى الركبة أن) يجدد التوبة مع الله عند الفريضة عن كل ذنب فعله من الذنوب عامة وخاصة، فالعامة: الكبائر والصغائر مما أومأ إليه الشرع، ونطق به الكتاب والسنة، والخاصة: ذنوب حال الشخص، فكل عبد على قدر صفاء حاله له ذنوب تلازم حاله، ويعرفها صاحبها، ثم لا يصلي إلا جماعة لما تقدم فضله، ثم (ينتصب قائما) حالة كونه (متوجها إلى القبلة بظاهره، والحضرة الإلهية بباطنه، ويراوح بين قدميه، ولا يضمهما) ، أي: بين كعبيه في القيام، ولكن يجعل بين قدميه مقدار أربع أصابع، هكذا قرره الأردبيلي في "الأنوار"، وأصل المراوحة في العملين أن يعمل هذا مرة، وهذا مرة، وتقول: راوح بين رجليه، أي: قام على إحداهما مرة وعلى الأخرى مرة، (فإن ذلك مما) يستحب، قال بعضهم: وقد (كان) السلف يفتقدون الإمام إذا كبر في ضم الأصابع، وإذا قام في تفرقة الأقدام، ويقولون: إنه مما (يستدل به على فقه الرجل) .

وفي "القوت": نظر ابن مسعود إلى رجل قد ألصق كعبيه، فقال: لو راوح بينهما كان أصاب السنة، (وقد) روي أنه (نهى صلى الله عليه وسلم عن الصفن والصفد في الصلاة) .

قال العراقي: عزاه رزين إلى الترمذي ولم أجده عنده، ولا عند غيره، وإنما ذكره أصحاب الغريب كابن الأثير في "النهاية"، وروى سعيد بن منصور في سننه أن ابن مسعود رأى رجلا صافا، أو صافنا قدميه، فقال: أخطأ هذا السنة اهـ .

(والصفد) بفتح فسكون (هو اقتران القدمين معا، ومنه قوله تعالى: مقرنين في الأصفاد ) ، واحدها صفد، كذا في "القوت"، (والصفن هو رفع إحدى الرجلين، ومنه قوله تعالى: الصافنات الجياد ) ، وقد صفن الفرس: إذا عطف سنبكه، كذا في "القوت"، وفي "المصباح": الصافن من الخيل: القائم على ثلاث، وصفن يصفن من باب ضرب، صفونا، والصافن: الذي يصف قدميه قائما، اهـ .

وإذا كان الصفن منهيا عنه، ففي زيادة الاعتماد على إحدى الرجلين دون الأخرى معنى من الصفن، فالأولى رعاية الاعتدال في الاعتماد على الرجلين جميعا، (وهذا ما يراعي) المصلي (في رجليه عند القيام و) كذا (يراعي) ذلك (في ركبتيه ومعقد نطاقه الانتصاب) من غير انحناء ولا اعوجاج، (وأما رأسه إن شاء تركه على استواء القيام) ، وهو الغالب (وإن شاء أطرق) ، بأن يحنيه إلى صدره قليلا، (والإطراق أقرب) حالة (للخشوع) وجمعية الباطن (وأغض للبصر) عن [ ص: 33 ] الالتفات يمنة ويسرة، وفي الخلاصة هو سنة (وليكن بصره محصورا على مصلاه الذي يصلي عليه) ، وعينه بعضهم بموضع السجدة منه، نقله المتولي (فإن لم يكن له مصلى، فليقرب من جدار الحائط) إن كان في البنيان (أو ليخط خطا) إن كان في الصحراء أو في صحن مسجد واسع، (فإن ذلك يقصر مسافة البصر) ، ويحصره فيه، (ويمنع تفرق الفكر) وتشتته (وليحجر) أي: ليمنع (فيه على بصره أن يجاوز أطراف المصلى) ، أو موضع السجدة (وحدود الخط) الذي خطه (وليدم هذا القيام كذلك) بالوصف المذكور، (إلى) وقت (الركوع من غير التفات) يمنة ويسرة، كأنه ناظر بجميع جسده إلى الأرض، (هذا أدب القيام) قبل الدخول في الصلاة، وهذا خشوع سائر الأجزاء، ويكون الجسد بلون القلب من الخشوع .

وأما بقية المنهيات، فسيأتي في كلام المصنف قريبا، (فإذا استوى قيامه واستقباله وأطرافه كذلك) ، أي: على الوصف الذي ذكر، (فليقرأ) سورة ( قل أعوذ برب الناس ) إلى آخرها مع البسملة قبل دخوله في الصلاة، فإنه مستحب (تحصنا به من الشيطان) ، فإنه جنة له منه، ويقول بعد ذلك: رب أعوذ بك من همزات الشياطين، وأعوذ بك رب أن يحضرون، (ثم ليأت بالإقامة) من غير أذان، (وإن كان يرجو حضور من يقتدي به) في صلاته، (فليؤذن أولا) أذانا معتدلا بين رفع الصوت وخفضه، ويقدم السنن الراتبة، ففي ذلك كما قال صاحب "العوارف": سر وحكمة، وذلك -والله أعلم- أن العبد يتشعث باطنه، ويتفرق همه بما بلي به من المخالطة مع الناس، وقيامه بمهام المعاش، أو سهو جرى بوضع الجبلة، أو صرف هم إلى أكل أو نوم بمقتضى العادة، فإذا قدم السنة ينجذب باطنه إلى الصلاة ويتهيأ للمناجاة، ويذيب بالسنة الراتبة أثر الغفلة والكدورة من الباطن، فينصلح الباطن ويصير مستعدا للفريضة، فالسنة مقدمة صالحة تستنزل البركات وتطرق للنفحات الإلهية، (ثم) بعد الفراغ من ذلك ينتصب قائما كما وصف، ويأتي بالإقامة و (ليحضر النية) في قلبه .

(وهو أن ينوي في الظهر مثلا ويقول بقلبه:) متلفظا بلسانه (أؤدي فريضة الظهر) أو فرض الظهر (لله) ، ولا يحتاج إلى قوله: نويت بعد هذا، كما لا يشترط تعيين عدد الركعات، ومنهم من يختار لفظ "نويت" لزيادة التأكيد، ثم إن محله بعد قوله "لله"، ولو قال: نويت أن أؤدي فرض الظهر لله جاز، وكذا إن قال "أصلي" بدل "أؤدي"، إلا أن ما اختاره المصنف أولى (ليميز بقوله: "أؤدي" عن القضاء) ؛لأن الأداء ما كان في وقته وهو غير القضاء، فلا بد من كلمة تميز بينهما، (و) يميز (بالفريضة) ، أو الفرض (عن النفل، وبالظهر عن العصر وغيره) من الصلوات، ولو سبق لسانه بالعصر وهو يصلي الظهر مثلا، فالعبرة بما في القلب (ولتكن معاني هذه الألفاظ) الأربعة (حاضرة في قلبه، فإنه هو النية) ، وهي معرفة معنى الأداء، وكونه في وقته المأمور به، وكون الذي يصليه هو مما افترض الله عليه، وأنه هو الظهر مثلا، وأنه لله تعالى وحده من غير مشاركة لسواه، (والألفاظ) إنما هي (مذكرات) ومنبهات (وأسباب) جعلت (لحضورها) في القلب .



وتحقيق هذا المقام ما أورده الرافعي في شرح "الوجيز" حيث قال: الصلاة قسمان: فرائض ونوافل، أما الفرائض فيعتبر فيها قصد أمرين بلا خلاف: أحدهما فعل الصلاة ليمتاز عن سائر الأفعال، ولا يكفي إحضار نفس الصلاة بالبال مع الغفلة عن الفعل الثاني: نفس الصلاة المأتي بها من ظهر وعصر وجمعة، ليمتاز عن سائر الصلوات، ولا تجزئه نية فريضة الوقت عن نية الظهر والعصر في أصح الوجهين، ولا يصح الظهر بنية الجمعة، وفيه وجه ضعيف، وتصح الجمعة بنية الظهر المقصورة إن قلنا: هي ظهر مقصورة، وإن قلنا: هي صلاة على حيالها لم يصح، ولا بنية مطلق الظهر على التقديرين، واختلفوا في اعتبار أمور أخر سوى هذين الأمرين منها: التعرض للفرضية في اشتراطه على وجهين -أداء كانت الفريضة أو قضاء- أحدهما، وبه قال ابن أبي هريرة : لا يشترط، وأظهرهما عند الأكثرين: يشترط. وبه قال أبو إسحاق: ومن صلى منفردا، ثم أعادها في الجماعة، ولا يكون فرضا، فوجب التمييز. ومنها الإضافة إلى الله تعالى بأن يقول "لله"، أو "فريضة الله"، فيه وجهان؛ أحدهما، وبه قال ابن القاص: يشترط لتحقيق معنى الإخلاص، وأصحهما عند الأكثرين: لا يشترط؛ لأن العبادة لا تكون إلا لله تعالى. ومنها [ ص: 34 ] التعرض لكون المأتي به أداء أو قضاء، وفي اشتراطه وجهان: أحدهما أنه يشترط ليمتاز كل واحدة منهما عن الأخرى، كما يشترط التعرض للظهر والعصر، والثاني وهو الأصح عند الأكثرين أنه لا يشترط، بل يصح الأداء بنية القضاء أو بالعكس؛ لأن القضاء والأداء كل واحد منهما يستعمل بمعنى الآخر، وقولهم "يصح الأداء بنية القضاء أو بالعكس"، إما أن نعني به أن لا يتعرض في الأداء لحقيقته، ولكن يجري في قلبه أو لسانه لفظ القضاء، وكذلك في عكسه، أو نعني به أن يتعرض في الأداء لحقيقة القضاء، وفي القضاء لحقيقة الأداء، أو شيئا آخر، فلا بد من معرفته أولا، وإن عنينا به الأول فلا ينبغي أن يقع نزاع في جوازه؛ لأن الاعتبار في النية بما في الضمير، ولا عبرة بالعبارات، وإن عنينا الثاني فلا ينبغي أن يقع نزاع في المنع؛ لأن قصد الأداء مع العلم بخروج الوقت، والقضاء مع العلم ببقاء الوقت هزو ولعب، فوجب أن لا تنعقد به الصلاة، كما لو نوى الظهر ثلاث ركعات أو خمسا، هذا سياق الرافعي .

وقال النووي : قلت: مراد الأصحاب بقولهم "يصح الأداء بنية القضاء أو عكسه" من نوى ذلك جاهلا الوقت لغيم ونحوه، والإلزام الذي ذكره الرافعي حكمه صحيح، ولكن ليس هو مرادهم، والله أعلم، اهـ .

ثم قال الرافعي : ومنها التعرض لاستقبال القبلة، شرطه بعض أصحابنا واستبعده الجمهور؛ لأنه إما شرط أو ركن، وليس على الناوي تعرض لتفاصيل الأركان والشرائط. ومنها التعرض لعدد الركعات، شرطه بعضهم، والصحيح خلافه؛ لأن الظهر إذا لم يكن قصرا لا يكون إلا أربعا .

القسم الثاني: النوافل، وهي ضربان؛ أحدهما: النوافل المتعلقة بسبب أو وقت، فيشترط فيها أيضا نية فعل الصلاة والتعيين، فينوي سنة الاستسقاء والخسوف، وسنة عيد الفطر والتراويح والضحى وغيرها، ولا بد من التعيين في ركعتي الفجر بالإضافة، وفيما عداها يكفي نية أصل الصلاة إلحاقا لركعتي الفجر بالفرائض لتأكدها، وإلحاقا لسائر الرواتب بالنوافل المطلقة، وفي الوتر ينوي سنة الوتر، ولا يضيفها إلى العشاء، فإنها مستقلة بنفسها، وإذا زاد على واحدة ينوي بالجميع الوتر، كما ينوي في جميع ركعات التراويح .

وحكى الروياني وجوها أخر يشبه أن تكون في: "والأولوية دون الاشتراط، وهل يشترط التعرض للنفلية في هذا الضرب"، اختلف كلام الناقلين فيه، وهو قريب من الخلاف في اشتراط التعرض للفرضية في الفرائض، والخلاف للتعرض في القضاء أو الأداء، والإضافة إلى الله. يعود ههنا الضرب الثاني: النوافل المطلقة، فيكفي فيها نية فعل الصلاة؛ لأنها أدنى درجات الصلاة، فإذا قصد الصلاة وجب أن يحصل له، ولم يذكروا ههنا خلافا في التعرض للنفلية، ويمكن أن يقال: اشتراط قصد الفريضة لتمتاز الفرائض عن غيرها اشتراط للتعرض للنفلية ههنا، بل التعرض لخاصيتها وهي الإطلاق والانفكاك عن الأسباب والأوقات، كالتعرض لخاصية الضرب الأول من النوافل .

وقال النووي : قلت: الصواب الجزم بعدم اشتراط النفلية في الضربين، ولا وجه للاشتراط في الأول، والله أعلم، ثم قال الرافعي : ثم النية في جميع العبادات معتبرة بالقلب، فلا يكفي النطق مع غفلة القلب، ولا يضر عدم النطق ولا النطق بخلاف ما في القلب، كما إذا قصد الظهر وسبق لسانه إلى العصر، وحكى صاحب "الإفصاح" وغيره عن بعض أصحابنا أنه لا بد من التلفظ باللسان؛ لأن الشافعي رضي الله عنه قال: الحاج لا يلزمه إذا أحرم ونوى بقلبه أن يذكره بلسانه، فليس كالصلاة التي لا تصح إلا بالنطق. قال الجمهور: لم يرد الشافعي اعتبار اللفظ بالنية، فإنما أراد التكبير، فإن الصلاة إنما تنعقد بلفظ التكبير، وفي الحج يصير محرما من غير لفظ، وإذا سمعت ما تلوت عليك فينبغي أن تفهم أن قول المصنف: "أؤدي فريضة الظهر" بعد قوله: "أن ينوي الظهر مثلا" أراد به شيئين، أحدهما: أصل الفعل، وهذا لا بد منه، والثاني: الوصف القابل للقضاء وهو الوقوع في الوقت، وهذا فيه خلاف بين الأصحاب كما تقدم في تقرير الرافعي، وما ذكره المصنف هو على وجه اشتراط نية الأداء في الأداء، وفيه وجه تقدم آنفا، وقوله: "ويقول بقلبه" فيه أيضا وجه تقدم آنفا. وقال ابن هبيرة: ومحل النية القلب، وصفة الكمال أن ينطق بلسانه بما نواه في قلبه؛ ليكونا في وطاء وقوام، قيل: إلا مالكا، فإنه كره النطق باللسان فيما فرضه النية، [ ص: 35 ] واختلفوا على أنه لو اقتصر على النية بقلبه أجزأه؟ بخلاف ما لو نطق بلسانه دون أن ينوي بقلبه .



(فصل)

نذكر فيه ما لأصحابنا مشايخ الحنفية من الكلام، فمنه ما يوافق مذهب الشافعي، ومنه ما يخالف، قالوا: النية قصد كون الفعل لما شرع له، والعبادات إنما شرعت لنيل رضا الله سبحانه، ولا يكون ذلك إلا بإخلاصها له، فالنية في العبادات: قصد كون الفعل لله تعالى ليس غير، فالمصلي إذا كان متنفلا يكفيه مطلق نية الصلاة، ولا يشترط تعيين ذلك الفعل، ولكن في التراويح اختلفوا قالوا: الأصح أنه لا يجوز بمطلق النية، وكذا في السنن الرواتب؛ لأنها صلاة مخصوصة، فيجب مراعاة الصفة للخروج عن العهدة، وذلك بأن ينوي السنة، أو ينوي متابعة النبي صلى الله عليه وسلم، كما في المكتوبة، وذكر المتأخرون أن التراويح وسائر السنن تتأدى بمطلق النية، وهو اختيار صاحب "الهداية" ومن تابعه، والاحتياط في نية التراويح أن ينوي التراويح نفسها أو ينوي سنة الوقت، فإنها هي السنة في ذلك الوقت، أو ينوي قيام الليل. والاحتياط للخروج من الخلاف أن ينوي السنة نفسها أو ينوي الصلاة متابعة للنبي صلى الله عليه وسلم، ويشترط في الوتر والجمعة والعيد التعيين، ولا يكفي مطلق نية الصلاة، وكذا جميع الفرائض والواجبات من المنذور وقضاء ما لزم بالشروع، والمفترض والمنفرد، ولا يكفيه نية مطلق الفرض ما لم يقل الظهر أو العصر، فإن نوى فرض الوقت ولم يعين، ولم يكن الوقت قد خرج، أجزأه ذلك، ولو كان عليه فائتة؛ لأن الفائتة لا تزاحم الوقتية في هذه التسمية إلا في الجمعة، فإنه لو نوى فرض الوقت لا تصح الجمعة؛ لأن فرض الوقت عندنا الظهر لا الجمعة، ولكن قد أمر بالجمعة لإسقاط الظهر، ولذا لو صلى الظهر قبل أن تفوته الجمعة صحت عندنا خلافا لزفر والأئمة الثلاثة، وإن حرم عليه الاقتصار عليها، ولا تشترط أعداد الركعات إجماعا لعدم الاحتياج إليها لكون العد متعينا بتعيين الصلاة، ولو نوى الفرض والتطوع معا جازما صلاه بتلك النية عن الفرض عند أبي يوسف لقوة الفرض، فلا يزاحمه الضعيف خلافا لمحمد؛ لأن الصلاة الواحدة لا تتصف بالوصفين لتنافيهما ولا بأحدهما، لعدم تعيينه، فيبطل أصل الصلاة، ولا يحتاج الإمام في صحة الاقتداء به إلى نية الإمامة، إلا في حق النساء خلافا لزفر، وأما المقتدي فينوي الاقتداء بالإمام .



وهل يشترط تعيين الصلاة؟ فيه وجهان: الأصح، نعم، وإن نوى صلاة الإمام ولم ينو الاقتداء لا يجزئه، واختلاف الفرضين يمنع الاقتداء، وإن نوى صلاة الجمعة ولم ينو الاقتداء جاز عند البعض وهو المختار، وإن كان الرجل شاكا في بقاء وقت الظهر مثلا فنوى ظهر الوقت، فإذا الوقت كان قد خرج يجوز، بناء على أن فعل القضاء بنية الأداء، وبالعكس يجوز، وهو المختار. والمستحب في النية أن يقصد بالقلب ويتكلم باللسان، ويحسن ذلك لاجتماع عزيمته، فإذا ذكر بلسانه كان عونا على تجمعه .

ونقل ابن الهمام عن بعض الحفاظ أنه قال: لم يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بطريق صحيح ولا ضعيف أنه كان يقول عند الافتتاح: أصلي كذا، ولا عن أحد من الصحابة والتابعين، بل المنقول أنه كان صلى الله عليه وسلم إذا قام إلى الصلاة كبر، وهذه بدعة اهـ .

ولكن ذكر نجم الزاهدي في "القنية": من عجز عن إحضار القلب في النية يكفيه اللسان؛ لأن التكليف بقدر الوسع لا يكلف الله نفسا إلا وسعها ، ولو نوى بالقلب ولم يتكلم جاز بلا خلاف. وفي "الكفاية" عن شرح الطحاوي: الأفضل أن يشتغل قلبه بالنية ولسانه بالذكر -يعني التكبير- ويده بالرفع اهـ .

أي: لأنه سيرة السلف، ولأن في ذلك مشقة، وأفضل الأعمال أحمزها، أي: أشقها، فالحاصل أن حضور النية في القلب من غير احتياج إلى اللسان أفضل وأحسن، وحضورها بالتكلم باللسان إذا تعسر بدونه حسن، والاكتفاء بمجرد التكلم من غير حضورها رخصة عند الضرورة وعدم القدرة على استحضارها. والله أعلم .




الخدمات العلمية