الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله عز وجل:

النار يعرضون عليها غدوا وعشيا ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب وإذ يتحاجون في النار فيقول الضعفاء للذين استكبروا إنا كنا لكم تبعا فهل أنتم مغنون عنا نصيبا من النار قال الذين استكبروا إنا كل فيها إن الله قد حكم بين العباد وقال الذين في النار لخزنة جهنم ادعوا ربكم يخفف عنا يوما من العذاب قالوا أو لم تك تأتيكم رسلكم بالبينات قالوا بلى قالوا فادعوا وما دعاء الكافرين إلا في ضلال

قوله تعالى: النار يعرضون عليها ، [النار] رفع على البدل من [سوء]، وقالت [ ص: 447 ] فرقة: [النار] رفع بالابتداء، وخبره [يعرضون].

وقالت فرقة: هذا الغدو والعشي هو في الدنيا، أي: في كل غدو وعشي من أيام الدنيا يعرض آل فرعون على النار، وروي في ذلك عن الهزيل بن شرحبيل، والسدي : أن أرواحهم في أجواف طير سود تروح بهم وتغدو إلى النار، وقاله الأوزاعي حين قال له رجل: إني رأيت طيورا بيضا تغدو من البحر ثم ترجع بالعشي سودا مثلها، فقال الأوزاعي : تلك هي التي في حواصلها أرواح آل فرعون، يحترق ريشها ويسود بالعرض على النار، وقال محمد بن كعب القرظي وغيره: أراد أنهم يعرضون في الآخرة على النار على تقدير ما بين الغدو والعشي; إذ لا غدو ولا عشي في الآخرة، وإنما ذلك. على التقدير بأيام الدنيا.

وقوله تعالى: ويوم تقوم الساعة يحتمل أن يكون "يوم" عطفا على "عشيا" والعامل فيه [يعرضون]، ويحتمل أن يكون كلاما مقطوعا والعامل في: [يوم] [أدخلوا]، والتقدير: على كل قول: "يقال ادخلوا". وقرأ نافع ، وحمزة ، والكسائي ، وحفص عن عاصم ، والأعرج ، وأبو جعفر ، وشيبة ، والأعمش ، وابن وثاب ، وطلحة : [أدخلوا] بقطع الألف، وقرأ علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وابن كثير ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، وأبو بكر عن عاصم ، والحسن ، وقتادة : [ادخلوا] بصلة الألف على الأمر لآل فرعون، و[آل] - على هذه القراءة - منادى مضاف، و[أشد] نصب على الظرفية.

والضمير في قوله: [يتحاجون] لجميع كفار الأمم، وهذا ابتداء قصص لا يختص بآل فرعون، والعامل في [إذ] فعل مضمر تقديره: واذكر، قال الطبري : و[إذ] هذه عطف على قوله تعالى: إذ القلوب لدى الحناجر .

قال القاضي أبو محمد رحمه الله:

وهذا بعيد، و"المحاجة": التحاور بالحجة والخصومة. و"الضعفاء" يريد في القدر والمنزلة في الدنيا، و الذين استكبروا هم أشراف الكفار وكبراؤهم، ولم [ ص: 448 ] يصفهم بالكبر إلا من حيث استكبروا، لا أنهم في أنفسهم كبراء، ولو كانوا كذلك في أنفسهم لكانت صفتهم الكبراء أو نحوه مما يوجب الصفة لهم، و"التبع" قيل: هو جمع واحده تابع كغائب وغيب، وقيل: هو مفرد يوصف به الجمع، كعدل وزور وغيره. وقولهم: مغنون عنا أي يحملون عنا كله ومشقته، فأخبرهم المستكبرون أن الأمر قد انجزم بحصول الكل منهم فيها، وأن حكم الله تعالى قد استمر بذلك.

وقوله: كل فيها ابتداء وخبر، والجملة خبر (إن)، وقرأ ابن السميفع: "إنا كلا فيها" بالنصب على التأكيد، ثم قال جميع من في النار لخزنتها وزبانيتها: ادعوا ربكم عسى أن يخفف عنا مقدار يوم من أيام الدنيا من العذاب، فراجعتهم الخزنة - على معنى التوبيخ والتقرير - أو لم تك تأتيكم رسلكم الآية، فأقر الكفار عند ذلك وقالوا: "بلى"، أي قد كان ذلك، فقال لهم الخزنة عند ذلك: فادعوا أنتم إذا، وعلى هذا معنى الهزء بهم، أي: فادعوا أيها الكافرون الذين لا معنى لدعائكم، وقالت فرقة: وما دعاء الكافرين إلا في ضلال هو من قول الخزنة، وقالت فرقة: هو من قول الله تعالى إخبارا منه لمحمد صلى الله عليه وسلم، وجاءت هذه الأفعال على صيغة المضي، قال الذين استكبروا - وقال الذين في النار - لأنها وصف حال متيقنة الوقوع فحسن ذلك فيها.

التالي السابق


الخدمات العلمية