الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                          صفحة جزء
                                                          وقد خص في الشرع بالحلف على الامتناع عن القرب من امرأته ومسيسها ، وكان ذلك التخصيص مشتقا من هذه الآية : للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر . والتربص الانتظار ، والترقب ، ومعنى الجملة الكريمة أن الله سبحانه وتعالى جعل للذين يحلفون ويجعلون موضع حلفهم الابتعاد عن نسائهم وتجنبهن متجنين عليهن ظالمين - تربص أربعة أشهر ينتظرونها ، والله يرقبهم فيها ، وحكم الله يترقبهم ، فإطلاق التربص من غير أن يضاف إلى الحالفين ، ولا أن يضاف إلى الله سبحانه وتعالى كان بمعنى الانتظار ، وهو من العبيد توسعة لهم ، ومن الله سبحانه وتعالى وشرعه ترقب لهم حتى يقطع السبيل على ظلمهم إن طال الأمد وقست قلوبهم .

                                                          وتلك المدة التي وسع لهم فيها ليعودوا إلى رشدهم . ويقلعوا عن غيهم ، وإلا حقت عليهم كلمة الله سبحانه وتعالى ; هي أربعة أشهر ، وبعدها يوضع حد لذلك الظلم والمضارة في العشرة الزوجية .

                                                          إن العشرة الزوجية أنس وإلف والتقاء روحي وجسدي بتحقيق ما يتقاضاه الطبع الإنساني ، والإنسال ; ليبقى الإنسان في هذه الأرض يعمرها إلى أن يقضي الله سبحانه وتعالى أمرا كان مفعولا ; فإذا جاء الرجل وهو القوام على الأسرة وهو رأسها وعمادها ، واشتط واتخذ المضارة والكيد ، بدل أن يؤلف القلوب ويؤنس النفوس ويربط بالمودة بينه وبين أهله ; إذا فعل ذلك فإن الجو يعتكر ، والأمور تضطرب ، وتحل البغضاء محل المحبة ، والمضرة محل المودة ; فوجب أن تنتهي هذه الحال إما بإعادة الود إلى صفائه ، وإما بفصم عرى الزوجية التي صارت لا تنتج إلا نكدا .

                                                          وإن من أشد مظاهر المضارة والمكايدة القطيعة في المضجع ، والهجر غير الجميل في المبيت ، فإنه أذى شديد ، لا لأنه امتناع عن قضاء الوطر ، بل لأنه يدل [ ص: 751 ] على البغض الشديد ، ولا شيء يفعل في نفس المرأة أشد من الإحساس بالبغض من العشير والضجيع الذي وهبت له نفسها ، وأعطته قلبها ، فكان منه ذلك النكر وذلك الهجر .

                                                          ولقد جعل الله سبحانه وتعالى أقصى غاية الصبر منها هو أربعة أشهر ، وبعدها يكون الفصم ، وإنهاء تلك الحياة الزوجية التي تحكمت بين الزوجين فيها البغضاء .

                                                          ولماذا كانت المدة أربعة أشهر ; لقد ذكر بعض العلماء أن تلك المدة أقصى ما تصبر عليه المرأة في المضارة بذلك الهجر غير الجميل . ولقد سأل عمر نساء عن مقدار ما تصبر المرأة عن زوجها ، فقالت بعضهن شهرين ، ويقل صبرها في ثلاثة ، وينفد صبرها في أربعة أشهر . ولقد كان عمر رضي الله عنه بعد هذا يسترد الغزاة ويستبدل بهم غيرهم بعد أربعة أشهر .

                                                          ثم إن التقدير بأربعة أشهر هو الذي يتفق مع جملة الأحكام الشرعية ; ذلك لأن الرجل أبيح له أن يتزوج أربعا من النساء ، وإذا كان في كل شهر يقرب نساءه مرة ، ويبادل بينهن ، فإن قسمها يكون مرة كل أربعة أشهر ، فكان من تناسق الأحكام الشرعية أن جعلت المدة التي تصبر فيها المرأة مع هذا الهجر أو تتصبر أربعة أشهر ; وذلك فوق أن الفطرة تقول : إن ذلك أقصى غاية الصبر على البعد المتعمد .

                                                          فإن فاءوا فإن الله غفور رحيم وإن تلك المهلة التي أعطيها الزوج يتربص فيها وينتظر ، والله يرقبه ، والشرع يترقبه ، إنما هي لكي يقلع عن الظلم وتعود المودة إلى ما كانت عليه ، ويؤدم بينهما بحياة رفيقة يقطعانها ، فإن فاء إلى زوجه أي رجع إلى مضجعه الذي هجره ، وقرب من امرأته ومسها ، وحنث في يمينه ، كفر إذ جعل الله سبحانه وتعالى الكفارة تحلة الأيمان ، وعندئذ يغفر الله سبحانه ما كان منه ; ولذا قال سبحانه : فإن الله غفور رحيم أي أن الله سبحانه وتعالى يغفر لهم ما فرط منهم في جنب أهلهم ، والقطيعة التي كانت منهم ما داموا قد رأبوا الصدع وعادوا إلى رشدهم وطيبوا قلوب أهليهم ، وأقاموا المودة ، وملئوا البيت أنسا بعد أن ملئوه [ ص: 752 ] وحشة ; ويغفر لهم سبحانه حنثهم في يمينهم ; لأن الله سبحانه لا يريد إلا إصلاح حالهم ، ولا ينقص من عظمته وجلاله أن يحنث عبد في قسمه ، ما دام الخير يريد والشر يجتنب ; والله سبحانه وتعالى رحيم بعباده في أن جعل لهم تحلة أيمانهم كفارة يستطيعونها وأن غفر لهم الحنث ، وأن دعاهم إلى ذلك الحنث رحمة بالأسرة من أن تتهدم أركانها ، وتتقطع أوصالها وتذهب المودة بين العشير وعشيره ، والأليف وأليفه ; ورحيم بهم في أن غفر لهم ما فرط من كل منهما في حق أخيه إذا أعادا المودة إلى سابق أمرها بعد أن كاد الهجر يقطعها .

                                                          التالي السابق


                                                          الخدمات العلمية