الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                        786 [ ص: 269 ] ( 24 ) باب ما يجوز للمحرم أكله من الصيد

                                                                                                                        748 - مالك ، عن أبي النضر ، مولى عمر بن عبيد الله التيمي ، عن نافع ، [ ص: 270 ] مولى أبي قتادة الأنصاري ، عن أبي قتادة ; أنه كان مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى إذا كانوا ببعض طريق مكة . تخلف مع أصحاب له محرمين . وهو غير محرم . فرأى حمارا وحشيا . فاستوى على فرسه . فسأل أصحابه أن يناولوه سوطه . فأبوا عليه . فسألهم رمحه فأبوا . فأخذه . ثم شد على الحمار فقتله . فأكل منه بعض أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبى بعضهم . فلما أدركوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، سألوه عن ذلك . فقال : " إنما هي طعمة أطعمكموها الله " .

                                                                                                                        [ ص: 271 ] 749 - وعن زيد بن أسلم ، أن عطاء بن يسار أخبره عن أبي قتادة ، في الحمار الوحشي ، مثل حديث أبي النضر . إلا أن في حديث زيد بن أسلم : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " هل معكم من لحمه شيء " .

                                                                                                                        750 - وعن هشام بن عروة ، عن أبيه ; أن الزبير بن العوام كان يتزود صفيف الظباء ، وهو محرم .

                                                                                                                        16310 - قال مالك : والصفيف القديد .

                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                        16311 - قال أبو عمر : يقال إن أبا قتادة كان وجهه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على طريق البحر مخافة العدو فلذلك لم يكن محرما إذ اجتمع مع أصحابه ; لأن مخرجهم [ ص: 272 ] لم يكن واحدا ، وكان ذلك عام الحديبية ، أو بعده بعام عام القضية . وكان اصطياد أبي قتادة الحمار لنفسه لا لغيره ، والله أعلم .

                                                                                                                        16312 - وفي هذا الحديث من الفقه : أن لحم الصيد حلال أكله للمحرم إذا لم يصده ، وصاده الحلال .

                                                                                                                        16313 - وفي ذلك دليل في قوله - عز وجل - ( وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما ) [ المائدة : 96 ] معناه : الاصطياد .

                                                                                                                        16314 - وقيل : الصيد ، وأكله لمن صاده . وأما من لم يصده فليس ممن عني بالآية .

                                                                                                                        [ ص: 273 ] 16315 - ويبين ذلك قوله - تعالى - : ( ياأيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم . ) [ المائدة : 95 ] ; لأن هذه الآية إنما نهى فيها عن قتل الصيد واصطياده لا غير .

                                                                                                                        16316 - وهذا باب اختلف فيه الخلف والسلف .

                                                                                                                        16317 - فكان عطاء ، ومجاهد ، وسعيد بن جبير : يرون للمحرم أكل كل ما صاده الحلال من الصيد الذي يحل للحلال أكله .

                                                                                                                        16318 - وبه قال أبو حنيفة ، وأصحابه .

                                                                                                                        16319 - وهو قول عمر بن الخطاب ، وعثمان بن عفان ، والزبير بن العوام ، وأبي هريرة ، وكعب الأحبار .

                                                                                                                        [ ص: 274 ] 16320 - واحتجوا بحديث أبي قتادة هذا ، وبحديث البهزي وبحديث طلحة بن عبيد الله .

                                                                                                                        16321 - ذكره السندي ، قال : حدثنا كعب بن علي ، قال : حدثني يحيى بن سعيد ، قال : حدثنا ابن جريج ، قال : حدثنا محمد بن المنكدر ، عن معاذ بن عبد الرحمن التيمي ، عن أبيه ، قال : كنا مع طلحة بن عبيد الله ونحن محرمون ، فأهدي لنا طير وهو راقد ، فأكل بعضنا ، فاستيقظ طلحة ، وفق من أكله ، وقال : أكلناه مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .

                                                                                                                        16322 - وأما قول عمر ففي الموطأ ذكره عن يحيى بن سعيد ، عن سعيد بن المسيب ، عن أبي هريرة أنه أفتى الركب المحرمين بأكل صيد وجدوه بالربذة ، ثم قدم المدينة ، فذكره لعمر ، فقال له : لو أفتيتهم بغير ذلك لفعلت بك . يتواعده .

                                                                                                                        [ ص: 275 ] 16323 - وهذا من عمر لا يكون إلا عن بصيرة قوية عنده في جواز أكل لحم الصيد المحرم إذا صاده الحلال .

                                                                                                                        16324 - ومثل هذا حديث مالك ، عن ابن شهاب ، عن سالم ، عن أبي هريرة بمعنى ما تقدم سواء .

                                                                                                                        16325 - ومثله حديث مالك في هذا الباب عن زيد بن أسلم ، عن عطاء بن يسار ، عن عمر وكعب . . ، إلا أن في حديث زيد بن أسلم قصة الجراد نذكرها في آخر هذا الباب إن شاء الله .

                                                                                                                        16326 - وقال آخرون : لحم الصيد محرم على المحرمين على كل حال ولا يجوز لمحرم أكل صيد ألبتة على ظاهر عموم قوله - عز وجل - ( وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما ) [ المائدة : 96 ] .

                                                                                                                        16327 - قال ابن عباس : هي مبهمة .

                                                                                                                        16328 - وكذلك كان علي بن أبي طالب ، وابن عمر لا يريان أكل الصيد للمحرم ما دام محرما .

                                                                                                                        16329 - وكره ذلك طاوس ، وجابر بن زيد .

                                                                                                                        [ ص: 276 ] 16330 - وروي عن زيد ، وروي عن الثوري ، وإسحاق مثل ذلك .

                                                                                                                        16331 - وحجة من ذهب إلى هذا حديث ابن عباس ، عن الصعب بن جثامة أنه أهدى لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - حمار وحش بالأبواء أو بودان ، فرده عليه ، وقال : " لم نرده عليك إلا أنا حرم " ; فلم يعتل بغير الإحرام ، وأطلق من أجله تحريم أكل الصيد لم يقيده بشيء ، وسيأتي القول في معنى هذا الحديث في الباب بعد هذا - إن شاء الله - .

                                                                                                                        16332 - ومن حجتهم أيضا : حديث زيد بن أرقم : أن ابن عباس قال له : يا زيد : أما علمت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أهدي له صيد فلم يقبله ؟ وقال : إنا حرم . قال : نعم .

                                                                                                                        16333 - وحديث علي بن أبي طالب في معناه .

                                                                                                                        [ ص: 277 ] 16334 - وقد ذكرناها كلها في " التمهيد " .

                                                                                                                        16335 - وقال آخرون : ما صاده الحلال للمحرم أو من أجله فلا يجوز له أكله . وما لم يصد له ولا من أجله فلا بأس للمحرم بأكله ، وهو الصحيح عن عثمان في هذا الباب .

                                                                                                                        16336 - وبه قال مالك . والشافعي وأصحابهما ، وأحمد ، وإسحاق ، وأبو ثور .

                                                                                                                        16337 - وروي أيضا عن عطاء مثل ذلك .

                                                                                                                        16338 - وحجة من ذهب هذا المذهب أنه عليه تتفق الأحاديث المروية عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في أكل الصيد مع ظاهر تضادها ، وأنها إذا حملت على ذلك لم تتضاد ولا تدافعت ، وعلى هذا يجب أن تحمل السنن ، ولا يعارض بعضها بعضا ، ما وجد إلى استعمال ذلك سبيل .

                                                                                                                        16339 - وقد روي عن النبي - عليه السلام - معنى ذلك .

                                                                                                                        16340 - حدثني عبد الوارث ، حدثنا قاسم ، قال : حدثنا ابن وضاح ، قال : حدثنا يوسف بن عدي ، قال : حدثنا ابن وهب ، عن يعقوب بن عبد الرحمن ، عن عمرو مولى بني المطلب أنه أخبره عن المطلب بن عبد الله بن حنطب ، عن جابر ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، قال : " لحم صيد البر لكم حلال وأنتم حرم ما لم تصيدوه أو يصد لكم " .

                                                                                                                        [ ص: 278 ] 16341 - وحدثني عبد الله بن محمد ، قال : حدثنا حمزة بن محمد ، قال : حدثني ابن شعيب ، قال : أخبرنا قتيبة بن سعيد ، قال : حدثنا يعقوب ، عن عمرو مولى المطلب ، عن جابر ، قال : سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول : " صيد البر لكم حلال ما لم يصيدوه أو يصد لكم " .

                                                                                                                        16342 - قال أبو عمر : في حديث أبي قتادة المذكور في أول الباب أنه لما استوى على فرسه سأل أصحابه أن يناولوه سوطه أو رمحه ، فأبوا .

                                                                                                                        16343 - وفي هذا دليل على أن المحرم إذا أعان الحلال على الصيد بما قل أو كثر فقد فعل ما لا يجوز له وهذا إجماع من العلماء .

                                                                                                                        16344 - واختلفوا في المحرم يدل المحرم أو الحلال على الصيد فيقتله .

                                                                                                                        16345 - فأما إذا دل المحرم الحلال على الصيد ، فقال مالك ، والشافعي وأصحابهما : [ ص: 279 ] يكره له ذلك ولا جزاء عليه .

                                                                                                                        16346 - وهو قول أبي ثور .

                                                                                                                        16347 : وقال المزني : جائز أن يدل المحرم الحلال على الصيد .

                                                                                                                        16348 - وقال أبو حنيفة وأصحابه : عليه الجزاء .

                                                                                                                        16349 - قال أبو حنيفة : ولو دله في الحرم لم يكن عليه الجزاء .

                                                                                                                        16350 - وقال زفر : عليه الجزاء في الحل دله عليه أو الحرم .

                                                                                                                        16351 - وبه قال أحمد ، وإسحاق .

                                                                                                                        16352 - وهو قول علي ، وابن عباس ، وعطاء .

                                                                                                                        16353 - واختلفوا أيضا فيما يجب على المحرم يدل المحرم على الصيد فيقتله .

                                                                                                                        16354 - فقال قوم : عليهما كفارة واحدة ، منهم عطاء ، وحماد بن أبي سليمان .

                                                                                                                        16355 - وقال آخرون : على كل واحد منهما كفارة .

                                                                                                                        16356 - وروي ذلك عن سعيد بن جبير ، والشعبي ، والحارث العكلي .

                                                                                                                        16357 - وبه قال أبو حنيفة وأصحابه .

                                                                                                                        16358 - وقال الشافعي ، وأبو ثور : لا جزاء إلا على القاتل وحده .

                                                                                                                        16359 - واختلفوا في الجماعة يشتركون في قتل الصيد .

                                                                                                                        16360 - فقال مالك : إذا قتل جماعة محرمون صيدا ، أو جماعة محلون في الحرم صيدا فعلى كل واحد منهما جزاء كامل .

                                                                                                                        16361 - وبه قال الثوري ، والحسن بن حي ، وهو قول الحسن البصري ، والشعبي ، [ ص: 280 ] والنخعي ورواية عن عطاء .

                                                                                                                        16362 - وقال أبو حنيفة وأصحابه : إذا قتل جماعة محرمون صيدا فعلى كل واحد منهما جزاء كامل ، وإن قتل جماعة محلون صيدا في الحرم فعلى جماعتهم جزاء واحد .

                                                                                                                        16363 - وقال الشافعي على كل : عليهم كلهم جزاء واحد ، وسواء كانوا محلين أو محرمين في الحرم .

                                                                                                                        16364 - وهو قول عطاء ، والزهري ، وبه قال أحمد وإسحاق ، وأبو ثور .

                                                                                                                        16365 - وروي عن عمر ، وعبد الرحمن بن عوف : أنهما حكما على رجلين أصابا ظبيا بشاة .

                                                                                                                        16366 - قال أبو عمر من جعل على كل واحد منهم الجزاء قاسه على الكفارة في قتل النفس ; لأنهم لا يختلفون في وجوب الكفارة على كل واحد من القاتلين في قتل النفس خطأ كفارة كاملة .

                                                                                                                        16367 - ومن جعل فيه جزاء واحدا قاسه على الدية ، ولا يختلفون على أنه فيمن قتل نفسا خطأ - وإن كانوا جماعة - إنما عليهم دية واحدة يشتركون فيها .

                                                                                                                        16368 - وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي قتادة هذا ما يدل على أن المحرم المشير لا يجوز له أكل ما أشار بقتله إلى الحلال .

                                                                                                                        16369 - أخبرنا محمد بن إبراهيم ، قال : حدثنا محمد بن معاوية ، قال : حدثنا أحمد بن شعيب ، قال : أخبرنا محمود بن غيلان ، قال : أخبرنا أبو داود ، قال : أخبرنا شعبة ، قال : أخبرنا عثمان بن عبد الله بن موهب ، قال : سمعت عبد الله بن أبي قتادة يحدث عن أبيه : أنهم كانوا في [ ص: 281 ] مسير لهم بعضهم محرم ، وبعضهم ليس بمحرم ، قال : فرأيت حمار وحش فركبت فرسي ، وأخذت الرمح فاستعنتهم ، فأبوا أن يعينوني فاختلست سوطا من بعضهم فشددت على الحمار فأصبته ; فأكلوا منه فأشفقوا ، وقال فسئل النبي ( عليه السلام ) ، فقال : هل أشرتم أو أعنتم ؟ ، قالوا : لا ، قال : فكلوا .

                                                                                                                        16370 - وأما حديث مالك عن هشام بن عروة ، عن أبيه أن الزبير كان يتزود صفيف الظباء في الإحرام فذلك لأنه كان ذلك اللحم الذي جعله صفيفا وتزوده قد ملكه قبل الإحرام فجاز له أكله قبل الإحرام .

                                                                                                                        16371 - ومذهبه في ذلك مذهب من لا يحرم على المحرم من الصيد ما قتله أو اصطاده دون أكله من صيد الحلال وهو معنى هذا الباب ، وكذلك أدخله فيه مالك .

                                                                                                                        16372 - والعلماء مجمعون على أن قتل المحرم للصيد حرام وعليه جزاؤه ، وأكله عليه حرام .

                                                                                                                        16373 - وهم مختلفون فيما صاده الحلال هل يحل للمحرم أكله ، على أقوال .

                                                                                                                        1637 - ( أحدها ) : أن أكل الصيد حرام على المحرم بكل حال ، على ظاهر قول الله - عز وجل - : ( وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما ) [ المائدة : 96 ] لم يخص أكلا من قتل .

                                                                                                                        [ ص: 282 ] 16374 م - ( والثاني ) : أن ما صاده الحلال جاز لمن كان حلالا في حين اصطياده محرما دون من كان محرما من ذلك الوقت وقت اصطياده .

                                                                                                                        16375 - ( والثالث ) : أن ما صيد لمحرم بعينه جاز لغيره من المحرمين أكله ولم يجز ذلك له وحده .

                                                                                                                        16376 - ( والرابع ) : أن ما صيد لمحرم لم يجز له ولا لغيره من المحرمين أكله .

                                                                                                                        16377 - هذه المسألة في الباب بعد هذا إن شاء الله .




                                                                                                                        الخدمات العلمية