الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      صفحة جزء
                                      قال المصنف رحمه الله تعالى ( وإن نسي صلاة ولم يعرف عينها لزمه أن يصلي خمس صلوات . وقال المزني [ يلزمه أن ] يصلي أربع ركعات وينوي الفائتة ، ويجلس في ركعتين ثم يجلس في الثالثة ثم يجلس في الرابعة ، وهذا غير صحيح لأن تعيين النية شرط في صحة الصلاة . ولا يحصل ذلك إلا بأن يصلي خمس صلوات بخمس نيات ) .

                                      التالي السابق


                                      [ ص: 77 ] الشرح ) إذا نسي صلاة أو صلاتين أو ثلاثا أو أربعا من الخمس ، قال الشافعي في الأم والأصحاب : لزمه أن يصلي الخمس ، وفيه مذهب المزني ودليل المذهب مذكور ، وعلى مذهب المزني يجهر بالقراءة في الأوليين ، حكاه عنه القاضي أبو الطيب وصاحب الشامل في باب صفة الصلاة ، وهناك ذكر كثيرون المسألة ، قال : لأن الجهر يكون في ثلاث صلوات فغلب ،ولو نسي صلاتين من يومين إن علم اختلافهما وجهل عينهما كفاه أن يصلي الخمس ، وإن علم اتفاقهما أو شك لزمه أن يصلي عشر صلوات كل صلاة مرتين ، وقد ذكر المصنف هذه المسألة في باب التيمم . قال الشافعي رحمه الله في الأم : لو كان عليه ظهر أو عصر أو جهل أيتهما هي فدخل بنية إحداهما ثم شك أيتهما نوى لم تجزه هذه الصلاة عن واحدة منهما ، ولو كان عليه فوائت لا يعرف عددها ويعلم المدة التي فاته فيها بأن قال : تركت صلوات من هذا الشهر ولا أعلم قدرها ، فوجهان حكاهما صاحبا التتمة والبيان والشاشي ( أحدهما ) وهو قول القفال يقال له : كم تتحقق أنك تركت ؟ فإن قال : عشر صلوات وأشك في الزيادة لزمه العشر دون الزيادة ( والثاني ) وهو قول القاضي حسين يقال له : كم تتحقق أنك صليت في هذا الشهر ؟ فإذا قال كذا وكذا ألزمناه قضاء ما زاد ; لأن الأصل شغل ذمته فلا يسقط إلا ما تحققه . قال صاحب التتمة : ونظير المسألة من شك بعد سلامه هل ترك ركنا ؟ وفيه قولان ( أحدهما ) لا شيء عليه ( والثاني ) يلزمه البناء على الأقل إن قرب الفصل ، وإن بعد لزمه الاستئناف فعلى قياس الأول يلزمه قضاء ما تحقق تركه فحسب ، وعلى الثاني يلزمه ما زاد على ما تحقق فعله ، قلت : قول القاضي حسين أصح ، والذي ينبغي أن يختار وجه ثالث وهو أنه إن كان عادته الصلاة ، ويندر تركه لم يلزمه إلا ما تيقن تركه كما لو شك بعد السلام في ترك ركن فإن المذهب أنه لا يلزمه شيء ; لأن الظاهر مضيها على الصحة ، وإن كان يصلي في وقت ويترك في وقت ، ولم تغلب منه الصلاة لزمه قضاء ما زاد على ما تيقن فعله ; لأن الأصل بقاؤه في ذمته ولم يعارضه ظاهر والله أعلم .



                                      [ ص: 78 ] فرع ) في مسائل تتعلق بالباب ( إحداها ) إذا اشتبه عليه وقت الصلاة والعجب أن المصنف ترك هذه المسألة وهي مهمة ومشهورة في كل الكتب حتى في التنبيه ، قال أصحابنا : إذا اشتبه وقتها لغيم أو لحبس في موضع مظلم أو غيرهما لزمه الاجتهاد فيه ، ويستدل بالدرس والأوراد والأعمال وشبهها ، ويجتهد الأعمى كالبصير ; لأنه يشارك البصير في هذه العلامات بخلاف القبلة ، وإنما يجتهدان إذا لم يخبرهما ثقة بدخول الوقت عن مشاهدة ، فإن أخبر عن مشاهدة بأن قال : رأيت الفجر طالعا أو الشفق غاربا ، لم يجز الاجتهاد ، ووجب العمل بخبره . وكذا لو أخبر ثقة عن أخبار عن مشاهدة وجب قبوله ، فإن أخبر عن اجتهاد لم يجز للبصير القادر على الاجتهاد تقليده ; لأن المجتهد لا يجوز له تقليد مجتهد ، ويجوز للأعمى والبصير العاجز عن الاجتهاد تقليده على أصح الوجهين لضعف أهليته ، وهذا ظاهر نص الشافعي رحمه الله ، وقطع به القاضي أبو الطيب في تعليقه في تقليد الأعمى ، وإذا وجب الاجتهاد فصلى بغير اجتهاد لزمه إعادة الصلاة وإن صادف الوقت ، لتقصيره وتركه الاجتهاد الواجب ، وقد تقدم نظيره في باب التيمم . قال في التتمة : لو ظن دخول الوقت فصلى بالظن بغير علامة ظهرت فصادف الوقت لا تصح صلاته لتفريطه بترك الاجتهاد والعلامة ، وإذا لم تكن له دلالة أو كانت فلم يغلب على ظنه شيء لزمه الصبر حتى يظن دخول الوقت ، والاحتياط أن يؤخر إلى أن يتيقنه أو يظنه ، ويغلب على ظنه أنه لو أخر خرج الوقت نص عليه الشافعي رحمه الله ، واتفق الأصحاب عليه ، وإذا قدر على الصبر إلى استيقان دخول الوقت جاز له الاجتهاد على الصحيح ، وهو قول جمهور أصحابنا .

                                      وفيه وجه اختاره أبو إسحاق الإسفراييني وهو نظير مسألة الأواني ، إذا اشتبه إناءان ومعه ثالث يتيقن طهارته . ولو كان في بيت مظلم وقدر على الخروج لرؤية الشمس فهل له الاجتهاد فيه وجهان حكاهما صاحب التتمة وغيره ( أحدهما ) لا لقدرته على اليقين والصحيح الجواز كما للصحابي اعتماد رواية صحابي وفتواه ، وإن كان قادرا على سماعه من النبي صلى الله عليه وسلم وتحصيل العلم القطعي [ ص: 79 ] بذلك ، وحيث جاز الاجتهاد فصلى به إن لم يتبين الحال فلا شيء عليه ، وإن بان وقوع الصلاة في الوقت أو بعده فلا شيء عليه وقد أجزأته صلاته لكن الواقعة فيه أداء والواقعة بعده قضاء على أصح الوجهين ، فعلى هذا لو كان مسافرا وقصرها وجبت إعادتها تامة إذا قلنا : لا يجوز قصر المقضية وإن كان وقوعها قبل الوقت وأدركه وجبت الإعادة بلا خلاف ، وإن لم يدركه فقولان ( الصحيح ) وجوب الإعادة ، وبه قطع الشيخ أبو حامد والقاضي أبو الطيب في تعليقهما والبندنيجي ( والثاني ) لا يجب ، وهذا الخلاف والتفصيل كنظيره فيمن اشتبه عليه شهر رمضان . ولو أخبره ثقة أن صلاته وقعت قبل الوقت فإن أخبره عن علم ومشاهدة وجبت الإعادة كالحاكم إذا وجد النص بخلاف حكمه فإنه يجب نقض حكمه ، وإن أخبره عن اجتهاد فلا إعادة بلا خلاف ، ولو علم المنجم الوقت بالحساب حكى صاحب البيان أن المذهب أنه يعمل به بنفسه ولا يعمل به غيره .



                                      ( فرع ) المؤذن الثقة العارف بالمواقيت هل يجوز اعتماده في دخول الوقت ؟ فيه أربعة أوجه : ( أحدها ) يجوز للأعمى في الصحو والغيم ، ويجوز للبصير في الصحو ولا يجوز له في الغيم ; لأنه في الغيم مجتهد والمجتهد لا يقلد المجتهد ، وفي الصحو يشاهد فهو مخبر عن مشاهدة . وهذا الوجه هو الذي رجحه الروياني والرافعي وغيرهما . ( والثاني ) وهو الأصح : يجوز للبصير والأعمى في الصحو والغيم قاله ابن سريج والشيخ أبو حامد وصححه صاحب التهذيب ، ونقله عن نص الشافعي رحمه الله ، وقطع به البندنيجي وصاحب العدة ، قال البندنيجي ولعله إجماع المسلمين ; لأنه لا يؤذن في العادة إلا في الوقت . ( والثالث ) لا يجوز لهما ; لأنه اجتهاد وهما مجتهدان حكاه في التهذيب والتتمة . ( والرابع ) يجوز للأعمى دون البصير من غير فرق بين الغيم والصحو حكاه القاضي أبو الطيب في تعليقه . ولو كثر المؤذنون في يوم صحو أو غيم وغلب على الظن أنهم لا يخطئون لكثرتهم جاز اعتمادهم للبصير والأعمى بلا خلاف .



                                      ( فرع ) الديك الذي جربت إصابته في صياحه للوقت يجوز اعتماده في دخول الوقت ذكره القاضي حسين وصاحب التتمة والرافعي .



                                      [ ص: 80 ] المسألة الثانية ) قال الشافعي رحمه الله في المختصر : الوقت للصلاة وقتان وقت مقام ورفاهية ، ووقت عذر وضرورة ، واتفق أصحابنا على أن المراد بوقت المقام والرفاهية وقت المقيم في وطنه إذا لم يكن هناك مطر ، وأما وقت العذر والضرورة ففيه وجهان مشهوران لمتقدمي أصحابنا حكاهما الشيخ أبو حامد وسائر شارحي المختصر ، الصحيح عندهم وهو قول أبي إسحاق المروزي وغيره أن المراد به وقت واحد ، وهو الوقت الجامع بين الصلاتين بسفر أو مطر ووقت صبي بلغ وكافر أسلم ومجنون ومغمى عليه أفاق وحائض ونفساء طهرتا قبل خروج وقت الصلاة الثانية فتلزمهم الصلاتان ( والثاني ) : أن المراد بوقت العذر وقت الجامع ، والمراد بوقت الضرورة وقت الصبي والباقين - قال الجمهور هذا التفسير غلط .



                                      ( الثالثة ) إذا دخل في الصلاة المكتوبة في أول وقتها أو غيره حرم قطعها بغير عذر وهذا هو نص الشافعي في الأم ، وقطع به جماهير الأصحاب ، وقد سبقت المسألة مبسوطة في باب التيمم وذكرنا هناك أن الصحيح أيضا تحريم قطع العموم الواجب بقضاء أو نذر أو كفارة وأوضحنا جميع ذلك .



                                      ( الرابعة ) يستحب إيقاظ النائم للصلاة لا سيما إن ضاق وقتها لقوله تعالى { وتعاونوا على البر والتقوى } ولحديث عائشة رضي الله عنها قالت : { كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي صلاته من الليل وأنا معترضة بين يديه فإذا بقي الوتر أيقظني فأوترت } وفي رواية : { فإذا أوتر قال : قومي فأوتري يا عائشة } رواه مسلم ، وعن أبي بكرة رضي الله عنه قال : { خرجت مع النبي صلى الله عليه وسلم لصلاة الصبح فكان لا يمر برجل إلا ناداه بالصلاة أو حركه برجله } رواه أبو داود بإسناد فيه ضعف ولم يضعفه والله أعلم .




                                      الخدمات العلمية