الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( ألم تر أن الله يسبح له من في السماوات والأرض والطير صافات كل قد علم صلاته وتسبيحه والله عليم بما يفعلون ولله ملك السماوات والأرض وإلى الله المصير ألم تر أن الله يزجي سحابا ثم يؤلف بينه ثم يجعله ركاما فترى الودق يخرج من خلاله وينزل من السماء من جبال فيها من برد فيصيب به من يشاء ويصرفه عن من يشاء يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار يقلب الله الليل والنهار إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار والله خلق كل دابة من ماء فمنهم من يمشي على بطنه ومنهم من يمشي على رجلين ومنهم من يمشي على أربع يخلق الله ما يشاء إن الله على كل شيء قدير لقد أنزلنا آيات مبينات والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم )

لما ذكر تعالى مثل المؤمن والكافر ، وأن الإيمان والضلال أمرهما راجع إليه ، أعقب بذكر الدلائل على قدرته وتوحيده ، والظاهر حمل التسبيح على حقيقته ، وتخصيص ( من ) في قوله : " ومن في الأرض " بالمطيع لله تعالى من الثقلين . وقيل : ( من ) عام لكل موجود غلب من يعقل على ما لا يعقل ، فأدرج ما لا يعقل فيه ويكون المراد بالتسبيح دلالته بهذه الأشياء على كونه تعالى منزها عن النقائص موصوفا بنعوت الكمال . وقيل : المراد بالتسبيح التعظيم ، فمن ذي الدين بالنطق والصلاة ، ومن غيرهم من مكلف وجماد بالدلالة ، فيكون ذلك قدرا مشتركا بينهما ، وهو التعظيم . وقال سفيان : تسبيح كل شيء بطاعته وانقياده .

( والطير صافات ) أي : صفت أجنحتها في الهواء للطيران ، وإنما خص الطير بالذكر ; لأنها تكون بين السماء والأرض إذا طارت فهي خارجة من جملة ( من في السماوات والأرض ) حالة طيرانها . وقرأ الجمهور : ( والطير ) مرفوعا عطفا على ( من ) ، و ( صافات ) نصب على الحال . وقرأ الأعرج : ( والطير ) بالنصب على أنه مفعول معه . وقرأ الحسن وخارجة ، عن نافع : ( والطير صافات ) برفعهما مبتدأ وخبر ، تقديره يسبحن . قيل : وتسبيح الطير حقيقي ; قاله الجمهور . قال الزمخشري : ولا يبعد أن يلهم الله الطير دعاءه وتسبيحه كما ألهمها سائر العلوم الدقيقة التي لا يكاد العقلاء يهتدون إليها . وقال الحسن وغيره : هو تجوز إنما تسبيحه ظهور الحكمة فيه ، فهو لذلك يدعو إلى التسبيح .

( كل ) أي كل ممن ذكر ، فيشمل الطير ، والظاهر أن الفاعل المستكن في : ( علم ) وفي ( صلاته وتسبيحه ) عائد على ( كل ) ، وقاله الحسن قال : فهو مثابر عليهما يؤديهما . وقال الزجاج : الضمير في ( علم ) وفي ( صلاته وتسبيحه ) لـ ( كل ) . وقيل : الضمير في ( علم ) لـ ( كل ) ، وفي ( صلاته وتسبيحه ) لله ، أي : صلاة الله وتسبيحه اللذين أمر بهما وهدى إليهما ، فهذه إضافة خلق إلى خالق . وقال مجاهد : الصلاة للبشر [ ص: 464 ] والتسبيح لما عداهم .

وقرأ الحسن وعيسى وسلام وهارون ، عن أبي عمر : ( وتفعلون ) ، بتاء الخطاب ، وفيه وعيد وتخويف . و ( ولله ملك السماوات والأرض ) إخبار بأن جميع المخلوقات تحت ملكه يتصرف فيهم بما يشاء تصرف القاهر الغالب . وإليه ( المصير ) أي إلى جزائه من ثواب وعقاب . وفي ذلك تذكير وتخويف .

ولما ذكر انقياد من في السماوات والأرض والطير إليه - تعالى - ، وذكر ملكه لهذا العالم وصيرورتهم إليه ، أكد ذلك بشيء عجيب من أفعاله ، مشعر بانتقال من حال إلى حال . وكان عقب قوله : " وإليه المصير " فأعلم بانتقال إلى المعاد فعطف عليه ما يدل على تصرفه في نقل الأشياء من حال إلى حال ، ومعنى ( يزجي ) يسوق قليلا قليلا ، ويستعمل في سوق الثقيل برفق كالسحاب والإبل ، والسحاب اسم جنس ، واحده سحابة ، والمعنى يسوق سحابة إلى سحابة . ( ثم يؤلف بينه ) أي بين أجزائه ; لأنه سحابة تتصل بسحابة ، فجعل ذلك ملتئما بتأليف بعض إلى بعض . وقرأ ورش : ( يولف ) ، بالواو ، وباقي السبعة بالهمز وهو الأصل . ( فيجعله ركاما ) أي متكاثفا ، يجعل بعضه إلى بعض ، وانعصاره بذلك ، ( من خلاله ) أي فتوقه ومخارجه التي حدثت بالتراكم والانعصار . والخلال : قيل مفرد . وقيل : جمع خلل كجبال وجبل . وقرأ ابن مسعود ، وابن عباس ، والضحاك ، ومعاذ العنبري ، عن أبي عمرو والزعفراني : ( من خلله ) ، بالإفراد ، والظاهر أن في السماء جبالا من برد ; قاله مجاهد والكلبي وأكثر المفسرين ، خلقها الله كما خلق في الأرض جبالا من حجر . وقيل : ( جبال ) مجاز عن الكثرة لا أن في السماء جبالا ، كما تقول : فلان يملك جبالا من ذهب ، وعنده جبال من العلم ; يريد الكثرة . قيل : أو هو على حذف حرف التشبيه .

والسماء السحاب ، أي ( من السماء ) التي هي جبال أي كجبال كقوله : ( حتى إذا جعله نارا ) أي كنار ; قاله الزجاج ، فجعل السماء هو السحاب المرتفع سمي بذلك لسموه وارتفاعه . وعلى القول الأول : المراد بالسماء الجسم الأزرق المخصوص ، وهو المتبادر للذهن ، ومن استعماله الجبال في الكثرة مجازا قول ابن مقبل :


إذا مت عن ذكر القوافي فلن ترى لها شاعرا مني أطب وأشعرا     وأكثر بيتا شاعرا ضربت له
بطون جبال الشعر حتى تيسرا



واتفقوا على أن ( من ) الأولى لابتداء الغاية . وأما ( من جبال ) . فقال الحوفي : هي بدل من ( السماء ) ، ثم قال : وهي للتبعيض ، وهذا خطأ ; لأن الأولى لابتداء الغاية فيما دخلت عليه ، وإذا كانت الثانية بدلا لزم أن يكون مثلها لابتداء الغاية ، لو قلت : خرجت من بغداد من الكرخ لزم أن يكونا معا لابتداء الغاية . وقال الزمخشري وابن عطية : هي للتبعيض فيكون على قولهما في موضع المفعول لـ ( ينزل ) . قال الحوفي والزمخشري : والثانية للبيان ، انتهى . فيكون التقدير وينزل من السماء بعض جبال فيها التي هي البرد ، فالمنزل برد ; لأن بعض البرد برد فمفعول ( ينزل ) ( من جبال ) .

قال الزمخشري : أو إلا ولأن للابتداء والأخيرة للتبعيض ، ومعناه أنه ينزل البرد من السماء من جبال فيها ، انتهى . فيكون ( من جبال ) بدلا ( من السماء ) .

وقيل : ( من ) الثانية والثالثة زائدتان ; وقاله الأخفش ، وهما في موضع نصب عنده ، كأنه قال : وينزل من السماء جبالا فيها ، أي : في السماء بردا ، وبردا بدل ، أي : برد جبال . وقال الفراء : هما زائدتان أي جبالا فيها برد لا حصى فيها ولا حجر ، أي يجتمع البرد فيصير كالجبال على التهويل فبرد مبتدأ وفيها خبره . والضمير في : ( فيها ) عائد على الجبال أو فاعل بالجار والمجرور ; لأنه قد اعتمد بكونه في موضع الصفة لجبال . وقيل : ( من ) الأولى والثانية لابتداء الغاية ، والثالثة زائدة أي وينزل من السماء من جبال السماء بردا . وقال الزجاج : معناه : وينزل من السماء من جبال برد فيها ، كما تقول : هذا خاتم في يدي من حديد ، أي خاتم حديد في يدي ، وإنما جئت في هذا وفي الآية بمن لما فرقت ; ولأنك إذا [ ص: 465 ] قلت : هذا خاتم حديد كان المعنى واحدا ، انتهى . فعلى هذا يكون ( من برد ) في موضع الصفة لجبال ، كما كان ( من ) في ( من حديد ) صفة لخاتم ، فيكون في موضع جر ، ويكون مفعول ( ينزل ) هو ( من جبال ) ، وإذا كانت الجبال ( من برد ) لزم أن يكون المنزل بردا . والظاهر إعادة الضمير في ( به ) على البرد ، ويحتمل أن يكون أريد به الودق والبرد ، وجرى في ذلك مجرى اسم الإشارة . وكأنه قال : فيصيب بذلك ، والمطر هو أعم وأغلب في الإصابة ، والصرف أبلغ في المنفعة والامتنان .

وقرأ الجمهور : ( سنا ) مقصورا ( برقه ) مفردا . وقرأ طلحة بن مصرف ( سناء ) ممدودا ( برقه ) بضم الباء وفتح الراء ، جمع برقة بضم الباء ، وهي المقدار من البرق كالغرفة واللقمة ، وعنه بضم الباء والراء أتبع حركة الراء لحركة الباء كما أتبعت في ( ظلمات ) ، وأصلها السكون . والسناء بالمد ارتفاع الشأن كأنه شبه المحسوس من البرق ; لارتفاعه في الهواء بغير المحسوس من الإنسان ، فإن ذلك صيب لا يحس به بصر . وقرأ الجمهور : ( يذهب ) بفتح الياء والهاء ، وأبو جعفر : ( يذهب ) بضم الياء وكسر الهاء . وذهب الأخفش وأبو حاتم إلى تخطئة أبي جعفر في هذه القراءة قالا : لأن الياء تعاقب الهمزة ، وليس بصواب ; لأنه لم يكن ليقرأ إلا بما روي . وقد أخذ القراءة عن سادات التابعين الآخذين عن جلة الصحابة أبي وغيره ، ولم ينفرد بها أبو جعفر بل قرأه شيبة كذلك وخرج ذلك على زيادة الباء أي يذهب الأبصار . وعلى أن الباء بمعنى من ، والمفعول محذوف ، تقديره يذهب النور من الأبصار ، كما قال :


شرب النزيف ببرد ماء الحشرج



يريد من برد . وتقليب الليل والنهار آيتان ، أحدهما بعد الآخر ، أو زيادة هذا وعكسه ، أو يغير النهار بظلمة السحاب مرة وضوء الشمس أخرى ، ويغير الليل باشتداد ظلمته مرة وضوء القمر أخرى ، أو باختلاف ما يقدر فيهما من الخير والنفع والشدة والنعمة والأمن ومقابلاتها ، ونحو ذلك أقوال أربعة ، إن في ذلك إشارة إلى ما تقدم من الدلائل الدالة على وحدانيته ، من تسبيح من ذكر وتسخير السحاب ، وما يحدثه تعالى فيه من أفعاله حتى ينزل المطر فيقسم رحمته بين خلقه ، وإراءتهم البرق في السحاب الذي يكاد يخطف الأبصار ويقلب الليل والنهار .

( لعبرة ) أي اتعاظا . وخص أولو الأبصار بالاتعاظ ; لأن البصر والبصيرة إذا استعملا وصلا إلى إدراك الحق كقوله : ( إنما يتذكر أولو الألباب ) .

وقرأ الجمهور ( خلق ) فعلا ماضيا . ( كل ) نصب . وقرأ حمزة والكسائي وابن وثاب والأعمش خالق اسم فاعل مضاف إلى ( كل ) . والدابة : ما يحرك أمامه قدما ويدخل فيه الطير . قال الشاعر :


دبيب قطا البطحاء في كل منهل



والحوت ، وفي الحديث : " دابة من البحر مثل الظرب " . واندرج في ( كل دابة ) المميز وغيره ، فسهل التفصيل بمن التي لمن يعقل وما لا يعقل إذا كان مندرجا في العام ، فحكم له بحكمه كأن الدواب كلهم مميزون . والظاهر أن ( من ماء ) متعلق بخلق . و ( من ) لابتداء الغاية ، أي ابتدأ خلقها من الماء . فقيل : لما كان غالب الحيوان مخلوقا من الماء لتولده من النطفة أو لكونه لا يعيش إلا بالماء ، أطلق لفظ ( كل ) ; تنزيلا للغالب منزلة العام ، ويخرج عما خلق من ماء ما خلق من نور وهم الملائكة ، ومن نار وهم الجن ، ومن تراب وهو آدم . وخلق عيسى من الروح وكثير من الحيوان لا يتولد من نطفة . وقيل ( كل دابة ) على العموم في هذه الأشياء كلها ، وإن أصل جميع المخلوقات الماء ، فروي أن أول ما خلق الله جوهرة فنظر إليها بعين الهيبة فصارت ماء ، ثم خلق من ذلك الماء النار والهواء والنور ، ولما كان المقصود من هذه الآية بيان أصل الخلقة ، وكان الأصل الأول هو الماء قال : ( خلق كل دابة من ماء ) . وقال القفال : ليس ( من ماء ) متعلقا بخلق ، وإنما هو في موضع الصفة لكل دابة ، فالمعنى الإخبار أنه تعالى خلق كل دابة متولدة من الماء ، أي متولدة من الماء مخلوقة لله تعالى . ونكر الماء هنا وعرف في ( وجعلنا من الماء كل شيء حي ) ; لأن المعنى هنا [ ص: 466 ] ( خلق كل دابة ) من نوع من الماء مختص بهذه الدابة ، أو ( من ماء ) مخصوص وهو النطفة ، ثم خالف بين المخلوقات من النطفة هوام وبهائم وناس ، كما قال : ( تسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الأكل ) ، وهنا قصد أن أجناس الحيوان كلها مخلوقة من هذا الجنس الذي هو جنس الماء ، وذلك أنه هو الأصل وإن تخللت بينها وبينه وسائط ، كما قيل : إن أصل النور والنار والتراب الماء .

وسمي الزحف على البطن مشيا ; لمشاكلته ما بعده من ذكر الماشين أو استعارة ، كما قالوا : قد مشى هذا الأمر وما يتمشى لفلان أمر ، كما استعاروا المشفر للشفة والشفة للجحفلة . والماشي ( على بطنه ) الحيات والحوت ونحو ذلك من الدود وغيره . و ( على رجلين ) الإنسان والطير والأربع لسائر حيوان الأرض من البهائم وغيرها ، فإن وجد من له أكثر من أربع . فقيل : اعتماده إنما هو على أربع ولا يفتقر في مشيه إلى جميعها ، وقدم ما هو أعرف في القدرة وأعجب ، وهو الماشي بغير آلة مشي من له رجل وقوائم ، ثم الماشي على رجلين ثم الماشي على أربع . وفي مصحف أبي : ومنهم من يمشي على أكثر ، فعم بهذه الزيادة جميع الحيوان لكنه لم يثبت قرآنا ، ولعله ما أورده مورد قرآن بل تنبيها على أن الله خلق من يمشي على أكثر من أربع : كالعنكبوت ، والعقرب ، والرتيلاء ، وذي أربع وأربعين رجلا ، وتسمى الأذن وهذا النوع لندوره لم يذكر .

( يخلق الله ما يشاء ) إشارة إلى أنه تعالى ما تعلقت به إرادة خلقه أنشأه واخترعه ، وفي ذلك تنبيه على كثرة الحيوان وأنها كما اختلفت بكيفية المشي اختلفت بأمور أخر .

التالي السابق


الخدمات العلمية