الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            ( ها أنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم والله يعلم وأنتم لا تعلمون ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا والله ولي المؤمنين )

                                                                                                                                                                                                                                            قوله تعالى : ( ها أنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم والله يعلم وأنتم لا تعلمون ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا والله ولي المؤمنين )

                                                                                                                                                                                                                                            فيه مسائل :

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الأولى : قرأ عاصم وحمزة والكسائي " ها أنتم " بالمد والهمزة ، وقرأ نافع وأبو عمرو بغير همز ولا مد ، إلا بقدر خروج الألف الساكنة وقرأ ابن كثير بالهمز والقصر على وزن " صنعتم " ، وقرأ ابن عامر بالمد دون الهمز ، فمن حقق فعلى الأصل ؛ لأنهما حرفان " ها " و " أنتم " ومن لم يمد ولم يهمز فللتخفيف من غير إخلال .

                                                                                                                                                                                                                                            [ ص: 79 ]

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثانية : اختلفوا في أصل ( ها أنتم ) فقيل : " ها " تنبيه والأصل " أنتم " وقيل أصله : " أأنتم " فقلبت الهمزة الأولى هاء ، كقولهم : هرقت الماء وأرقت و " هؤلاء " مبني على الكسر وأصله أولاء دخلت عليه " ها " التنبيه ، وفيه لغتان : القصر والمد ، فإن قيل : أين خبر أنتم في قوله : ها أنتم ؟ قلنا في ثلاثة أوجه :

                                                                                                                                                                                                                                            ( الأول ) : قال صاحب " الكشاف " " ها " للتنبيه و " أنتم " مبتدأ و ( هؤلاء ) خبره و ( حاججتم ) جملة مستأنفة مبينة للجملة الأولى بمعنى : أنتم هؤلاء الأشخاص الحمقى وبيان حماقتكم وقلة عقولكم أنكم وإن جادلتم فيما لكم به علم فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم ؟

                                                                                                                                                                                                                                            ( والثاني ) : أن يكون " أنتم " مبتدأ ، وخبر " هؤلاء " بمعنى أولاء على معنى الذي وما بعده صلة له .

                                                                                                                                                                                                                                            ( الثالث ) : أن يكون " أنتم " مبتدأ " وهؤلاء " عطف بيان " وحاججتم " خبره ، وتقديره : أنتم يا هؤلاء حاججتم .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثالثة : المراد من قوله ( حاججتم فيما لكم به علم ) هو أنهم زعموا أن شريعة التوراة والإنجيل مخالفة لشريعة القرآن فكيف تحاجون فيما لا علم لكم به ، وهو ادعاؤكم أن شريعة إبراهيم كانت مخالفة لشريعة محمد عليه السلام ؟ .

                                                                                                                                                                                                                                            ثم يحتمل في قوله : ( ها أنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم ) أنه لم يصفهم في العلم حقيقة ، وإنما أراد أنكم تستجيزون محاجته فيما تدعون علمه ، فكيف تحاجونه فيما لا علم لكم به البتة ؟ .

                                                                                                                                                                                                                                            ثم حقق ذلك بقوله ( والله يعلم ) كيف كانت حال هذه الشرائع في المخالفة والموافقة : ( وأنتم لا تعلمون ) كيفية تلك الأحوال .

                                                                                                                                                                                                                                            ثم بين تعالى ذلك مفصلا فقال : ( ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ) فكذبهم فيما ادعوه من موافقة لهما .

                                                                                                                                                                                                                                            ثم قال : ( ولكن كان حنيفا مسلما ) وقد سبق تفسير الحنيف في سورة البقرة .

                                                                                                                                                                                                                                            ثم قال : ( وما كان من المشركين ) وهو تعريض بكون النصارى مشركين في قولهم بإلهية المسيح وبكون اليهود مشركين في قولهم بالتشبيه .

                                                                                                                                                                                                                                            فإن قيل : قولكم : إبراهيم على دين الإسلام أتريدون به الموافقة في الأصول أو في الفروع ؟ فإن كان الأول لم يكن مختصا بدين الإسلام ، بل نقطع بأن إبراهيم أيضا على دين اليهود ، أعني ذلك الدين الذي جاء به موسى ، فكان أيضا على دين النصارى ، أعني تلك النصرانية التي جاء بها عيسى فإن أديان الأنبياء لا يجوز أن تكون مختلفة في الأصول ، وإن أردتم به الموافقة في الفروع ، فلزم أن لا يكون محمد - عليه السلام - صاحب الشرع البتة ، بل كان كالمقرر لدين غيره ، وأيضا من المعلوم بالضرورة أن التعبد بالقرآن ما كان موجودا في زمان إبراهيم - عليه السلام - فتلاوة القرآن مشروعة في صلاتنا غير مشروعة في صلاتهم ، قلنا : جاز أن يكون المراد به الموافقة في الأصول ، والغرض منه بيان أنه ما كان موافقا في أصول الدين لمذهب هؤلاء الذين هم اليهود والنصارى في زماننا هذا ، وجاز أيضا أن يقال المراد به الفروع وذلك لأن الله نسخ تلك الفروع بشرع [ ص: 80 ] موسى ، ثم في زمن محمد - صلى الله عليه وسلم - نسخ شرع موسى - عليه السلام - الشريعة التي كانت ثابتة في زمن إبراهيم - عليه السلام - وعلى هذا التقدير يكون محمد - عليه السلام - صاحب الشريعة ، ثم لما كان غالب شرع محمد - عليه السلام - موافقا لشرع إبراهيم عليه السلام ، فلو وقعت المخالفة في القليل لم يقدح ذلك في حصول الموافقة .

                                                                                                                                                                                                                                            ثم ذكر تعالى : ( إن أولى الناس بإبراهيم ) فريقان :

                                                                                                                                                                                                                                            ( أحدهما ) : من اتبعه ممن تقدم .

                                                                                                                                                                                                                                            ( والآخر ) : النبي وسائر المؤمنين .

                                                                                                                                                                                                                                            ثم قال : ( والله ولي المؤمنين ) بالنصرة والمعونة والتوفيق والإعظام والإكرام .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية