الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 461 ]

بسم الله الرحمن الرحيم

تفسير سورة فصلت

هذه السورة مكية بإجماع من المفسرين، ويروى أن عتبة بن ربيعة ذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليبين عليه أمر مخالفته لقومه، وليحتج عليه فيما بينه وبينه، وليبعد ما جاء به، فلما تكلم عتبة قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: "حم" ومر في صدر هذه السورة، حتى انتهى إلى قوله تعالى: فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود ، فأرعد الشيخ وقف شعره، وأمسك على فم رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده وناشده بالرحم أن يمسك، وقال حين فارقه: "والله لقد سمعت شيئا ما هو بالشعر ولا بالسحر ولا بالكهانة، ولقد ظننت أن صاعقة العذاب على رأسي".

[ ص: 562 ] قوله عز وجل:

حم تنزيل من الرحمن الرحيم كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون بشيرا ونذيرا فأعرض أكثرهم فهم لا يسمعون وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب فاعمل إننا عاملون قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فاستقيموا إليه واستغفروه وويل للمشركين الذين لا يؤتون الزكاة وهم بالآخرة هم كافرون

تقدم القول في أوائل السور مما يختص به الحواميم، وأمال الأعمش "حم" في كلها، و"تنزيل" خبر الابتداء، إما على أن يقدر الابتداء في "حم" على ما تقتضيه بعض الأقاويل فيها، إذا جعلت اسما للسورة أو للقرآن أو إشارة إلى حروف المعجم، وإما على أن يكون التقدير: هذا تنزيل، ويجوز أن يكون "تنزيل" ابتداء وخبره في قوله تعالى: كتاب فصلت ، على معنى: ذو تنزيل. و الرحمن الرحيم صفتا رجاء ورحمة لله تعالى، و"فصلت" قال السدي : معناه: بينت آياته، أي فسرت معانيه، ففصل بين حلاله وحرامه، وزجره وأمره ونهيه، ووعده ووعيده، وقيل: فصلت في التنزيل، أي نزل نجوما، ولم ينزل مرة واحدة، وقيل: فصلت بالمواقف وأنواع أواخر الآي، ولم يكن يرجع إلى قافية ونحوها كالشعر والسجع، و"قرآنا" نصب على الحال عند قوم، وهي مؤكدة لأن هذه الحال ليست مما تنتقل، وقالت فرقة: هو نصب على المصدر، وقالت فرقة: "قرآنا" توطئة للحال و"عربيا" حال، وقالت فرقة: "قرآنا" نصب على المدح، وهو قول ضعيف.

وقوله تعالى: لقوم يعلمون قالت فرقة: معناه: يعلمون الأشياء ويعقلون الدلائل وينظرون على طريق النظر، فكأن القرآن فصلت آياته لهؤلاء إذ هم أهل الانتفاع بها، فخصوا بالذكر تشريفا، ومن لم ينتفع بالتفصيل، فكأنه لم يفصل له، وقالت فرقة: "يعلمون" متعلق في المعنى بقوله تعالى: "عربيا"، أي: جعلناه بكلام العرب لقوم يعلمون ألفاظه، ويتحققون أنها لم يخرج شيء منها عن كلام العرب، وكأن الآية رادة على من زعم أن في كتاب الله تعالى ما ليس في كلام العرب، فالعلم - على هذا التأويل - أخص من العلم على التأويل الأول، والأول أشرف معنى، وبين أنه ليس في [ ص: 463 ] القرآن إلا ما هو من كلام العرب، إما على أصل لغتها، وإما عربته من لغة غيرها، ثم ذكر في القرآن وهو معرب مستعمل.

وقوله تعالى: بشيرا ونذيرا نعت للقرآن، أي يبشر من آمن بالجنة وينذر من كفر بالنار، والضمير في "أكثرهم" عائد على القوم المذكورين. وقوله تعالى: فهم لا يسمعون نفي لسمعهم النافع، الذي يعتد به سمعا. ثم حكي عنهم مقالتهم التي باعدوا فيها كل المباعدة، وأرادوا أن يؤيسوه من قبولهم دينه، وهي: قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه ، و"أكنة": جمع كنان، وهو باب فعال وأفعلة، والكنان: ما يجمع الشيء ويضمه ويحول بينه وبين غيره، ومنه الكن، ومنه كنانة النبل، وبها فسر مجاهد هذه الآية، و"من" في قولهم: مما تدعونا إليه لابتداء الغاية، وكذلك هي في قولهم: ومن بيننا وبينك حجاب مؤكدة لابتداء الغاية، و"الوقر" الثقل في الأذن الذي يمنع السمع، وقرأ ابن مصرف : "وقر" بكسر الواو، و"الحجاب" الذي أشاروا إليه هو مخالفته إياهم، ودعوته إلى الله تعالى دون أصنامهم، أي: هذا أمر يحجبنا عنك.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله:

وهذه مقالة تحتمل أن تكون معها قرينة الجد في المحاورة وتتضمن المباعدة، ويحتمل أن تكون معها قرينة الهزل والاستخفاف، وكذلك قولهم: فاعمل إننا عاملون يحتمل أن يكون القول تهديدا، ويحتمل أن يكون متاركة محضة. وقرأ الجمهور: "قل إنما" على الأمر لمحمد صلى الله عليه وسلم، وقرأ يحيى بن وثاب ، والأعمش : "قل إنما" على المضي والخبر عنه، وهذا هو الصدع بالتوحيد والرسالة.

وقوله تعالى: إنما أنا بشر مثلكم ، قال الحسن: علمه الله تعالى التواضع، و"إن" في قوله تعالى: إنما إلهكم رفع على المفعول الذي لم يسم فاعله، وقوله: "فاستقيموا" أي على محجة الهدى وطريق الشرع والتوحيد، وهذا المعنى مضمن قوله: "إليه"، و"الويل": الحزن والثبور، وفسره الطبري وغيره في هذه الآية بقبح أهل النار وما يسيل منهم. وقوله تعالى: الذين لا يؤتون الزكاة قال الحسن، وقتادة ، وغيرهما: هي [ ص: 464 ] زكاة المال، وروي أن الزكاة قنطرة الإسلام، من قطعها نجا، ومن جانبها هلك، واحتج لهذا التأويل بقول أبي بكر رضي الله عنه في الزكاة وقت الردة، وقال ابن عباس رضي الله عنهما، والجمهور: الزكاة في هذه الآية: "لا إله إلا الله" التوحيد، كما قال موسى عليه السلام لفرعون: هل لك إلى أن تزكى ، ويرجح هذا التأويل أن الآية من أول المكي، وزكاة المال إنما نزلت بالمدينة، وإنما هذه زكاة القلب والبدن، أي تطهيرهما من الشرك والمعاصي، وقاله مجاهد والربيع ، وقال الضحاك ومقاتل : معنى الزكاة هنا: النفقة في الطاعات، وأعاد الضمير في قوله تعالى: هم كافرون توكيدا.

التالي السابق


الخدمات العلمية