الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      معلومات الكتاب

                                                                                                                                                                                                                                      فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية

                                                                                                                                                                                                                                      الشوكاني - محمد بن علي بن محمد الشوكاني

                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 26 ] هو وصف للمتقين كاشف ، والإيمان في اللغة : التصديق ، وفي الشرع ما سيأتي .

                                                                                                                                                                                                                                      والغيب في كلام العرب : كل ما غاب عنك .

                                                                                                                                                                                                                                      قال القرطبي : واختلف المفسرون في تأويل الغيب هنا ، فقالت فرقة : الغيب في هذه الآية هو الله سبحانه ، وضعفه ابن العربي .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال آخرون : القضاء والقدر .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال آخرون : القرآن وما فيه من الغيوب .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال آخرون : الغيب كل ما أخبر به الرسول مما لا تهتدي إليه العقول من أشراط الساعة وعذاب القبر والحشر والنشر والصراط والميزان والجنة والنار .

                                                                                                                                                                                                                                      قال ابن عطية : وهذه الأقوال لا تتعارض بل يقع الغيب على جميعها ، قال : وهذا هو الإيمان الشرعي المشار إليه في حديث جبريل حين قال للنبي صلى الله عليه وآله وسلم : فأخبرني عن الإيمان ؟ قال : أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ، وتؤمن بالقدر خيره وشره ، قال : صدقت انتهى .

                                                                                                                                                                                                                                      وهذا الحديث هو ثابت في الصحيح بلفظ : أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله ، والقدر خيره وشره .

                                                                                                                                                                                                                                      وقد أخرج ابن أبي حاتم والطبراني وابن منده وأبو نعيم كلاهما في معرفة الصحابة عن تويلة بنت أسلم قالت : صليت الظهر أو العصر في مسجد بني حارثة ، فاستقبلنا مسجد إيليا فصلينا سجدتين ، ثم جاءنا من يخبرنا بأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد استقبل البيت ، فتحول الرجال مكان النساء والنساء مكان الرجال ، فصلينا السجدتين الباقيتين ونحن مستقبلون البيت الحرام ، فبلغ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال : أولئك قوم آمنوا بالغيب .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج البزار وأبو يعلى والحاكم وصححه عن عمر بن الخطاب قال : كنت جالسا مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال : أنبئوني بأفضل أهل الإيمان إيمانا ؟ فقالوا : يا رسول الله الملائكة ، قال : هم كذلك ويحق لهم ، وما يمنعهم وقد أنزلهم الله المنزلة التي أنزلهم بها ، قالوا : يا رسول الله الأنبياء الذين أكرمهم الله برسالته والنبوة ، قال : هم كذلك ويحق لهم ، وما يمنعهم وقد أنزلهم الله المنزلة التي أنزلهم بها ، قالوا : يا رسول الله الشهداء الذين استشهدوا مع الأنبياء ، قال : هم كذلك ، وما يمنعهم وقد أكرمهم الله بالشهادة ، قالوا : فمن يا رسول الله ؟ قال : أقوام في أصلاب الرجال يأتون من بعدي يؤمنون بي ولم يروني ويصدقوني ولم يروني ، يجدون الورق المعلق فيعملون بما فيه ، فهؤلاء أفضل أهل الإيمان إيمانا وفي إسناده محمد بن أبي حميد وفيه ضعف .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج الحسن بن عرفة في حزبه المشهور والبيهقي في الدلائل عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فذكر نحو الحديث الأول ، وفي إسناده المغيرة بن قيس البصري وهو منكر الحديث .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج نحوه الطبراني عن ابن عباس مرفوعا ، والإسماعيلي عن أبي هريرة مرفوعا أيضا ، والبزار عن أنس مرفوعا ، وأخرج ابن أبي شيبة في مسنده عن عوف بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : يا ليتني قد لقيت إخواني . قالوا : يا رسول الله ألسنا إخوانك ؟ قال : بلى ، ولكن قوم يجيئون من بعدكم يؤمنون بي إيمانكم ويصدقوني تصديقكم وينصروني نصركم ، فيا ليتني قد لقيت إخواني وأخرج نحوه ابن عساكر في الأربعين السباعية من حديث أنس ، وفي إسناده أبو هدبة وهو كذاب ، وزاد فيه " ثم قرأ النبي صلى الله عليه وآله وسلم الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة [ البقرة : 3 ] الآية " .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج أحمد والدارمي والبارودي وابن قانع معا في معجم الصحابة والبخاري في تاريخه والطبراني والحاكم عن أبي جمعة الأنصاري قال : قلت : يا رسول الله هل من قوم أعظم منا أجرا آمنا بك واتبعناك ؟ قال : ما يمنعكم من ذلك ورسول الله بين أظهركم يأتيكم بالوحي من السماء ، بل قوم يأتون من بعدكم يأتيهم كتاب الله بين لوحين فيؤمنون بي ويعملون بما فيه أولئك أعظم منكم أجرا .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج أحمد وابن أبي شيبة والحاكم عن أبي عبد الرحمن الجهني قال : بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذ طلع راكبان ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : كنديان أو مذحجيان حتى أتيا ، فإذا رجلان من مذحج ، فدنا أحدهما ليبايعه ، فلما أخذ بيده قال : يا رسول الله أرأيت من جاءك فآمن بك واتبعك وصدقك فماذا له ؟ قال : طوبى له ، فمسح على زنده وانصرف ، ثم جاء الآخر حتى أخذ بيده ليبايعه فقال : يا رسول الله أرأيت من آمن بك وصدقك واتبعك ولم يرك ؟ قال : طوبى له ثم طوبى له ، ثم مسح على زنده وانصرف .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج الطيالسي وأحمد والبخاري في تاريخه والطبراني والحاكم عن أبي أمامة الباهلي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : طوبى لمن رآني وآمن بي ، وطوبى لمن آمن بي ولم يرني سبع مرات .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج أحمد وابن حبان عن أبي سعيد أن رجلا قال : يا رسول الله طوبى لمن رآك وآمن بك ؟ قال : طوبى لمن رآني وآمن بي ، وطوبى ثم طوبى ثم طوبى لمن آمن بي ولم يرنيوأخرج الطيالسي وعبد بن حميد عن ابن عمر نحوه .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج أحمد وأبو يعلى والطبراني من حديث أنس نحو حديث أبي أمامة الباهلي المتقدم .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج سفيان بن عيينة وسعيد بن منصور وأحمد بن منيع في مسنده ، وابن أبي حاتم وابن الضباري والحاكم وصححه عن ابن مسعود أنه قال : والذي لا إله غيره ما آمن أحد أفضل من إيمان بغيب ، ثم قرأ الم ذلك الكتاب لا ريب فيه إلى قوله : المفلحون [ البقرة : 1 - 5 ] .

                                                                                                                                                                                                                                      وللتابعين أقوال ، والراجح ما تقدم من أن الإيمان الشرعي يصدق على جميع ما ذكر هنا .

                                                                                                                                                                                                                                      قال ابن جرير : والأولى أن تكونوا موصوفين بالإيمان بالغيب قولا واعتقادا وعملا .

                                                                                                                                                                                                                                      قال : وتدخل الخشية لله في معنى الإيمان الذي هو تصديق القول بالعمل .

                                                                                                                                                                                                                                      والإيمان كلمة جامعة للإقرار بالله وكتبه ورسله وتصديق الإقرار بالفعل .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال ابن كثير : إن الإيمان الشرعي المطلوب لا يكون إلا اعتقادا وقولا وعملا ، هكذا ذهب إليه أكثر الأئمة .

                                                                                                                                                                                                                                      بل قد حكاه الشافعي وأحمد بن حنبل وأبو عبيد وغير واحد إجماعا أن الإيمان قول وعمل ويزيد وينقص .

                                                                                                                                                                                                                                      وقد ورد فيه آيات كثيرة .

                                                                                                                                                                                                                                      انتهى .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية