الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                        صفحة جزء
                                        4 - الحديث الرابع : عن أبي هريرة رضي الله عنه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم { إذا توضأ أحدكم فليجعل في أنفه ماء ، ثم لينتثر ، ومن استجمر فليوتر ، وإذا استيقظ أحدكم من نومه فليغسل يديه قبل أن يدخلهما في الإناء ثلاثا فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده } . وفي لفظ لمسلم { فليستنشق بمنخريه من الماء } وفي لفظ { من توضأ فليستنشق } .

                                        التالي السابق


                                        فيه مسائل : الأولى : في هذه الرواية : " فليجعل في أنفه " ولم يقل " ماء " وهو مبين في غيرها وتركه لدلالة الكلام عليه .

                                        الثانية : تمسك به من يرى وجوب الاستنشاق ، وهو مذهب أحمد ، ومذهب الشافعي ومالك : عدم الوجوب .

                                        وحملا الأمر على الندب ، بدلالة ما جاء في الحديث من قوله صلى الله عليه وسلم للأعرابي { توضأ كما أمرك الله } فأحاله على الآية .

                                        وليس فيها ذكر الاستنشاق .

                                        الثالثة : المعروف أن " الاستنشاق " جذب الماء إلى الأنف . [ ص: 70 ] و " الاستنثار " دفعه للخروج . ومن الناس من جعل الاستنثار لفظا يدل على الاستنشاق الذي هو الجذب وأخذه من النثرة ، وهي طرف الأنف . والاستفعال منها يدخل تحته الجذب والدفع معا .

                                        والصحيح : هو الأول .

                                        ; لأنه قد جمع بينهما في حديث واحد وذلك يقتضي التغاير .



                                        الرابعة : قوله صلى الله عليه وسلم { ومن استجمر فليوتر } الظاهر : أن المراد به : استعمال الأحجار في الاستطابة وإيتار فيها بالثلاث واجب عند الشافعي .

                                        فإن الواجب عنده رحمه الله في الاستجمار أمران .

                                        أحدهما : إزالة العين .

                                        والثاني : استيفاء ثلاث مسحات .

                                        وظاهر الأمر الوجوب .

                                        لكن هذا الحديث لا يدل على الإيتار بالثلاث .

                                        فيؤخذ من حديث آخر .

                                        وقد حمل بعض الناس الاستجمار على استعمال البخور للتطيب .

                                        فإنه يقال فيه : تجمر واستجمر .

                                        فيكون الأمر للندب على هذا .

                                        والظاهر : هو الأول ، أعني أن المراد : هو استعمال الأحجار .



                                        الخامسة : ذهب بعضهم إلى وجوب غسل اليدين قبل إدخالهما في الإناء في ابتداء الوضوء ، عند الاستيقاظ من النوم ، لظاهر الأمر .

                                        ولا يفرق هؤلاء بين نوم الليل ونوم النهار ، لإطلاق قوله صلى الله عليه وسلم { إذا استيقظ من نومه } وذهب أحمد إلى وجوب ذلك من نوم الليل ، دون نوم النهار .

                                        لقوله صلى الله عليه وسلم { أين باتت يده ؟ } والمبيت يكون بالليل . وذهب غيرهم إلى عدم الوجوب مطلقا .

                                        وهو مذهب مالك والشافعي .

                                        والأمر محمول على الندب .

                                        واستدل على ذلك بوجهين .

                                        أحدهما : ما ذكرناه من حديث الأعرابي . [ ص: 71 ]

                                        والثاني : أن الأمر - وإن كان ظاهره الوجوب - إلا أنه يصرف عن الظاهر لقرينة ودليل ، وقد دل الدليل ، وقامت القرينة ههنا .

                                        فإنه صلى الله عليه وسلم علل بأمر يقتضي الشك .

                                        وهو قوله { فإنه لا يدري أين باتت يده ؟ } والقواعد تقتضي أن الشك لا يقتضي وجوبا في الحكم ، إذا كان الأصل المستصحب على خلافه موجودا .

                                        والأصل : الطهارة في اليد ، فلتستصحب [ وفيه احتراز عن مسألة الصيد ] .

                                        السادسة ، قيل : إن سبب هذا الأمر : أنهم كانوا يستنجون بالأحجار ، فربما وقعت اليد على المحل وهو عرق ، فتنجست .

                                        فإذا وضعت في الماء نجسته ; لأن الماء المذكور في الحديث : هو ما يكون في الأواني التي يتوضأ منها .

                                        والغالب عليها القلة .

                                        وقيل : إن الإنسان لا يخلو من حك بثرة في جسمه ، أو مصادفة حيوان ذي دم فيقتله ، فيتعلق دمه بيده .

                                        السابعة : الذين ذهبوا إلى أن الأمر للاستحباب : استحبوا غسل اليد قبل إدخالها في الإناء في ابتداء الوضوء مطلقا ، سواء قام من النوم أم لا .

                                        ولهم فيه مأخذان .

                                        أحدهما : أن ذلك : وارد في صفة وضوء النبي صلى الله عليه وسلم من غير تعرض لسبق نوم .

                                        والثاني : أن المعنى الذي علل به في الحديث - وهو جولان اليد موجود في حال اليقظة .

                                        فيعم الحكم لعموم علته .

                                        الثامنة : فرق أصحاب الشافعي ، أو من فرق منهم ، بين حال المستيقظ من النوم وغير المستيقظ .

                                        فقالوا في المستيقظ من النوم : يكره أن يغمس يده في الإناء ، قبل غسلها ثلاثا .

                                        وفي غير المستيقظ من النوم : يستحب له غسلها ، قبل إدخالها في الإناء .

                                        وليعلم الفرق بين قولنا " يستحب فعل كذا " وبين قولنا " يكره تركه " فلا تلازم بينهما .

                                        فقد يكون الشيء مستحب الفعل ، ولا يكون مكروه الترك ، كصلاة [ ص: 72 ] الضحى مثلا ، وكثير من النوافل .

                                        فغسلها لغير المستيقظ من النوم ، قبل إدخالها الإناء : من المستحبات .

                                        وترك غسلها للمستيقظ من النوم : من المكروهات .

                                        وقد وردت صيغة النهي عن إدخالها في الإناء قبل الغسل في حق المستيقظ من النوم .

                                        وذلك يقتضي الكراهة على أقل الدرجات .

                                        وهذه التفرقة هي الأظهر .



                                        التاسعة : استنبط من هذا الحديث : الفرق بين ورود الماء على النجاسة ، وورود النجاسة على الماء .

                                        ووجه ذلك : أنه قد نهى عن إدخالها في الإناء قبل غسلها ، لاحتمال النجاسة .

                                        وذلك يقتضي : أن ورود النجاسة على الماء مؤثر فيه . وأمر بغسلها بإفراغ الماء عليها للتطهير .

                                        وذلك يقتضي : أن ملاقاتها للماء على هذا الوجه غير مفسد له بمجرد الملاقاة ، وإلا لما حصل المقصود من التطهير .



                                        العاشرة : استنبط منه : أن الماء القليل ينجس بوقوع النجاسة فيه .

                                        فإنه منع من إدخال اليد فيه ، لاحتمال النجاسة ، وذلك دليل على أن تيقنها مؤثر فيه ، وإلا لما اقتضى احتمال النجاسة المنع .

                                        وفيه نظر عندي .

                                        ; لأن مقتضى الحديث : أن ورود النجاسة على الماء مؤثر فيه ، ومطلق التأثير أعم من التأثير بالتنجيس .

                                        ولا يلزم من ثبوت الأعم ثبوت الأخص المعين . فإذا سلم الخصم أن الماء القليل بوقوع النجاسة فيه يكون مكروها ، فقد ثبت مطلق التأثير .

                                        فلا يلزم منه ثبوت خصوص التأثير بالتنجيس .

                                        وقد يورد عليه : أن الكراهة ثابتة عند التوهم .

                                        فلا يكون أثر اليقين هو الكراهة .

                                        ويجاب عنه : بأنه ثبت عند اليقين زيادة في رتبة الكراهة .

                                        والله أعلم .




                                        الخدمات العلمية