الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 43 ] قوله عز وجل:

فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه وانظر إلى حمارك ولنجعلك آية للناس وانظر إلى العظام كيف ننشزها ثم نكسوها لحما فلما تبين له قال أعلم أن الله على كل شيء قدير .

وقف في هذه الألفاظ على بقاء طعامه وشرابه على حاله لم يتغير، وعلى بقاء حماره حيا على مربطه هذا على أحد التأويلين، وعلى التأويل الثاني وقف على الحمار كيف يحيا وتجتمع عظامه، وقرأ ابن مسعود: "وهذا طعامك وشرابك لم يتسنه" ، وقرأ طلحة بن مصرف، وغيره: "وانظر إلى طعامك وشرابك لمائة سنة" .

قال أبو علي: واختلفوا في إثبات الهاء في الفعل من قوله عز وجل: "لم يتسنه" و"اقتده" ، و"ما أغنى عني ماليه" و"سلطانيه"، "وما أدراك ما هيه" وإسقاطها في الوصل - لم يختلفوا في إثباتها في الوقف - فقرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وعاصم، وابن عمر: هذه الحروف كلها بإثبات الهاء في الوصل، وكان حمزة يحذفهن في الوصل، وكان الكسائي يحذفها في "يتسنه" و"اقتده" ويثبتها في الباقي، ولم يختلفوا في "حسابيه" و"كتابيه" أنهما بالهاء في الوقف والوصل.

و"يتسنه" يحتمل أن يكون من تسنى الشيء إذا تغير وفسد، ومنه "الحمأ" [ ص: 44 ] المسنون: المصبوب على سنن الأرض، فإذا كان من "تسنن" فهو: "لم يتسنن، قلبت النون ياء كما فعل في "تظننت" حتى قلت: "لم أتظن" فيجيء تسنن: تسنى، ثم تحذف الياء للجزم فيجيء المضارع: "لم يتسن". ومن قرأها بالهاء على هذا القول فهي هاء السكت، وعلى هذا يحسن حذفها في الوصل.

ويحتمل "يتسنه" أن يكون من السنة وهو الجدب والقحط وما أشبهه، يسمونه بذلك، وقد اشتق منه فعل فقيل: "استنوا"، وإذا كان هذا أو من السنة التي هي العام على قول من يجمعها سنوات فعلى هذا أيضا الهاء هاء السكت، والمعنى: لم تغير طعامك القحوط والجدوب ونحوه، أو لم تغيره السنون والأعوام.

وأما من قال في تصغير السنة: سنيهة، وفي الجمع: سنهات، وقال: أسنهت عند بني فلان - وهي لغة الحجاز ومنها قول الشاعر:


وليست بسنهاء ولا رجبية ... ولكن عرايا في السنين الجوائح



فإن القراءة على هذه اللغة هي بإثبات الهاء ولا بد، وهي لام الفعل، وفيها ظهر الجزم بلم، وعلى هذا هي قراءة ابن كثير، ونافع، وأبي عمرو، وقد ذكر. وقرأ طلحة بن مصرف: "لم يسنه" على الإدغام.

وقال النقاش: "لم يتسنه" معناه: لم يتغير، من قوله تعالى: ماء غير آسن ، [ ص: 45 ] ورد النحاة على هذا القول لأنه لو كان من: أسن الماء لجاء "لم يتأسن".

وأما قوله تعالى: وانظر إلى حمارك فقال وهب بن منبه، وغيره: المعنى: وانظر إلى اتصال عظامه وإحيائه جزءا جزءا، ويروى أنه أحياه الله كذلك حتى صار عظاما ملتئمة، ثم كساه لحما حتى كمل حمارا، ثم جاء ملك فنفخ في أنفه الروح فقام الحمار ينهق، وروي عن الضحاك، ووهب بن منبه أيضا أنهما قالا: بل قيل له: وانظر إلى حمارك قائما في مربطه لم يصبه شيء مائة سنة. قالا: وإنما العظام التي نظر إليها عظام نفسه، قالا:

وأعمى الله العيون عن أرمياء وحماره هذه المدة.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وكثر أهل القصص في صورة هذه النازلة تكثيرا اختصرته لعدم صحته.

وقوله تعالى: ولنجعلك آية للناس معناه: لهذا المقصد من أن تكون آية فعلنا بك هذا، وقال الأعمش: موضع كونه آية هو أنه جاء شابا على حاله يوم مات فوجد الأبناء والحفدة شيوخا، وقال عكرمة: جاء وهو ابن أربعين سنة كما كان يوم مات ووجد بنيه قد نيفوا على مائة سنة، وقال غير الأعمش: بل موضع كونه آية أنه جاء وقد هلك كل من يعرف، فكان آية لمن كان حيا من قومه إذ كانوا مؤمنين بحاله سماعا.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وفي إماتته هذه المدة ثم إحيائه أعظم آية، وأمره كله آية للناس غابر الدهر لا يحتاج إلى تخصيص بعض ذلك دون بعض.

وأما العظام التي أمر بالنظر إليها فقد ذكرنا من قال: هي عظام نفسه، ومن قال: هي عظام الحمار - وقرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو: "ننشرها" بفتح النون الأولى، وضم الشين، وبالراء، وقرأها كذلك الحسن، وابن عباس، وأبو حيوة، فمن قرأ "ننشرها" [ ص: 46 ] بضم النون الأولى وبالراء فمعناه: نحييها يقال: أنشر الله الموتى، قال الله تعالى: ثم إذا شاء أنشره ، وقال الأعشى:


. . . . . . . . . . ......     يا عجبا للميت الناشر



وقراءة عاصم "ننشرها" بفتح النون الأولى وضم الشين يحتمل أن يكون لغة في الإحياء، يقال: نشرت الميت وأنشرته فيجيء: نشر الميت ونشرته، كما يقال: حسرت الدابة وحسرتها، وغاض الماء وغضته، ورجع زيد ورجعته، ويحتمل أن يراد بها ضد الطي كأن الموت طي للعظام والأعضاء، وكأن الإحياء وجمع بعضها إلى بعض نشر - وأما من قرأ: "ننشزها" بالزاي فمعناه: نرفعها، والنشز المرتفع من الأرض، ومنه قول الشاعر:


ترى الثعلب الحولي فيها كأنه ...     إذا ما علا نشزا حصان مجلل



قال أبو علي وغيره: فتقديره: ننشزها برفع بعضها إلى بعض للإحياء، ومنه نشوز المرأة، وقال الأعشى:


. . . . . . . . . .     قضاعية تأتي الكواهن ناشزا



يقال: نشز وأنشزته.

[ ص: 47 ] قال القاضي أبو محمد رحمه الله: ويقلق عندي أن يكون معنى النشوز رفع العظام بعضها إلى بعض، وإنما النشوز الارتفاع قليلا قليلا، فكأنه وقف على نبات العظام الرفات وخروج ما يوجد منها عند الاختراع. وقال النقاش: ننشزها معناه: ننبتها، وانظر استعمال العرب تجده على ما ذكرت لك، من ذلك: نشز ناب البعير، والنشز من الأرض على التشبيه بذلك.

ونشزت المرأة كأنها فارقت الحال التي ينبغي أن تكون عليها.

وقوله تعالى: وإذا قيل انشزوا فانشزوا أي ارتفعوا شيئا فشيئا كنشوز الناب، فبذلك تكون التوسعة، فكأن النشوز ضرب من الارتفاع، ويبعد في الاستعمال أن يقال لمن ارتفع في حائط أو غرفة:

نشز. وقرأ النخعي "ننشزها" بفتح النون وضم الشين والزاي، وروي ذلك عن ابن عباس، وقتادة، وقرأ أبي بن كعب: "كيف ننشيها" بالياء.

والكسوة: ما وارى من الثياب، وشبه اللحم بها، وقد استعاره النابغة للإسلام فقال:


الحمد لله إذ لم يأتني أجلي ...     حتى اكتسيت من الإسلام سربالا



ويروى أنه كان يرى اللحم والعصب والعروق كيف تلتئم وتتواصل، وقال الطبري: المعنى في قوله:

"فلما تبين له" أي: لما اتضح له عيانا ما كان مستنكرا في قدرة الله عنده قبل عيانه "قال: أعلم".

قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا خطأ لأنه ألزم ما لا يقتضيه اللفظ، وفسر على القول الشاذ والاحتمال الضعيف. [ ص: 48 ] وقرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وعاصم، وابن عامر: "أعلم" مقطوعة الألف مضمومة الميم، وقرأ حمزة، والكسائي: "قال اعلم أن الله" موصولة الألف ساكنة الميم، وقرأها أبو رجاء. وقرأ عبد الله بن مسعود، والأعمش: "قيل أعلم" .

قال القاضي أبو محمد رحمه الله: فأما هذه فبينة المعنى، أي قال الملك له - والأولى بينة المعنى، أي قال هو: أنا "أعلم أن الله على كل شيء قدير"، وهذا عندي ليس بإقرار بما كان قبل ينكره كما زعم الطبري، بل هو قول بعثه الاعتبار، كما يقول الإنسان المؤمن إذا رأى شيئا غريبا من قدرة الله: "لا إله إلا الله" ونحو هذا. وقال أبو علي: معناه: أعلم هذا الضرب من العلم الذي لم أكن علمته.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله: يعني علم المعاينة. وأما قراءة حمزة، والكسائي فتحتمل وجهين أحدهما: قال الملك له: اعلم، والآخر أن ينزل نفسه منزلة المخاطب الأجنبي المنفصل، فالمعنى: فلما تبين له قال لنفسه: اعلم، وأنشد أبو علي - في مثل هذا - قول الأعشى:


ودع هريرة إن الركب مرتحل . . .      . . . . . . . . . . . . .



وقوله:


ألم تغتمض عيناك ليلة أرمدا؟. . . .      . . . . . . . . . . . . .



[ ص: 49 ] وأمثلة هذا كثيرة. وتأنس أبو علي في هذا المعنى بقول الشاعر:


تذكر من أنى ومن أين شربه ...     يؤامر نفسيه كذي الهجمة الأبل



التالي السابق


الخدمات العلمية