الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      ولما وصف القرآن بما وصفه به من الشفاء وما معه بعد إقامة الدليل [ ص: 150 ] على إعجازه، وأشار إلى أن ما تدينوا به في غاية الخبط وأنه مع كونه كذبا يقدر كل واحد على تغييره بأحسن منه لكونه غير مبني على الحكمة، وختم ذلك بتهديدهم على افتراء الكذب في شرع ما لم يأذن به مع ادعائهم أن القرآن مفترى وهم عاجزون عن معارضته، وبأنهم لم يشكروه على نعمه التي أجلها تخصيصهم بهذا الذكر الحكيم والشرع القويم، وكان قد أكثر في ذلك كله من الأمر له صلى الله عليه وسلم بمحاجتهم: قل لا أملك لنفسي قل أرأيتم إن أتاكم عذابه قل إي وربي إنه لحق قل بفضل الله - الآية. قل أرأيتم ما أنـزل الله لكم قل آلله أذن لكم قال تعالى ناظرا إلى قوله: وما كان هذا القرآن أن يفترى الآية. تسلية له صلى الله عليه وسلم وتقوية لهمته وزيادة في تهديدهم عطفا على ما تقديره: فقد أنزلت إليهم على لسانك ما هو شرف لهم ونعمة عليهم وهو في غاية البعد عن مطلق الكذب فإن كل شيء منه في أحكم مواضعه وأحسنها لا يتطرق إليه الباطل بوجه وهم يقابلون نعمته بالكفر: وما تكون [أنت] في شأن أي: أي شأن كان وما تتلو منه أي: من القرآن المحدث عنه في جميع هذه السورة، الذي تقدم أنهم كذبوا به من غير شبهة لهم من قرآن أي: قليل أو كثير ولا تعملون أي: كلكم طائعكم وعاصيكم، وأغرق في النفي فقال: من عمل [ ص: 151 ] صغير أو كبير إلا كنا [أي] بما لنا من العظمة عليكم شهودا أي: عاملين بإحاطة علمنا ووكالة جنودنا عمل الشاهد إذ تفيضون فيه الآية. إيذانا بأنك بعيني في جميع هذه المراجعات وغيرها من شؤونك وأنا العالم بتدبيرك والقادر على نصرتك، وهي كلها من كتابي الذي تتضاءل القوى دونه وتقف الأفكار عن مجاراته لأنه حكيم لكونه من عندي فجل عن مطلق المعارضة لفظا أو معنى فضلا عن التغيير فضلا عن الإتيان بما هو مثله فكيف بما هو أحسن منه، لاستقامة أمره وتناسب أحكامه كونها شفاء وهدى [ورحمة]، وما كان كذلك فهو من عندي قطعا وبإذني جزما لأني عالم بالإفاضة فيه والانفصال عنه وجميع الأمور الواقعة منك ومنهم ومن غيرهم.

                                                                                                                                                                                                                                      ولما كان ربما ظن ظان من إفهام " كنا " و " شهودا " للجنود أنه سبحانه محتاج إليهم، نفى ذلك بقوله: وما أي: والحال أنه ما يعزب أي: يغيب [ويخفى] عن ربك أي المربي لكل مخلوق بعام أفضاله ولك بخاص نعمه وأشرف نواله، وأغرق في النفي فقال: من مثقال ذرة أي: وزن نملة صغيرة جدا، وموضع وزنها وزمانه; ولما كان "في" بموزن أهل الأرض كان تقديمها أولى فقال: في الأرض ولما لم يدع السياق إلى الجمع - كما سيأتي في سبأ - قال اكتفاء بالمفرد الدال على الجنس: ولا في السماء [ ص: 152 ] أي: ما علا عن الأرض كائنا ما كان.

                                                                                                                                                                                                                                      ولما كان ربما أدى الجمود بعض الأغبياء إلى أن يحمل المثقال على حقيقته ويجهل أن المراد به المبالغة، قال عاطفا على الجملة من أولها وهو على الابتداء سواء رفعنا الراءين على قراءة حمزة ويعقوب أو نصبناهما عند الباقين: ولا أصغر من ذلك أي: من مثقال الذرة ولا أكبر ولما أتى بهذا الابتداء الشامل الحاصر أخبر عنه بقوله: إلا أي: لا شيء من ذلك إلا موجود في كتاب أي: جامع مبين أي: ظاهر في نفسه مظهر لكل ما فيه، [وسيأتي في سبأ ما يتم به هذا المكان]، وفي ذلك تهديد لهم وتثبيت له صلى الله عليه وسلم، ولاح بهذا أن ما بعد " إلا " حال من الفاعل، أي ما يفعل شيئا إلا وأنت بأعيننا فثبت أن القرآن بعلمه، فلو افتراه أحد عليه لأمكن منه; والإفاضة: الدخول في العمل على جهة الانصباب إليه وهو الانبساط في العمل أخذا من فيض الإناء إذا انصب ما فيه من جوانبه، وأفضتم: تفرقتم كتفرق الماء الذي يتصبب من الإناء; والعزوب: ذهاب المعنى عن العلم، وضده الحضور; والذر: صغار النمل وهو خفيف الوزن جدا، ومثقاله: وزنه.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية