الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 143 ] قال يا قوم أريتم إن كنت على بينة من ربي ورزقني منه رزقا حسنا وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب

تقدم نظير الآية في قصة نوح وقصة صالح عليهما السلام .

والمراد بالرزق الحسن هنا مثل المراد من الرحمة في كلام نوح وكلام صالح - عليهما السلام - وهو نعمة النبوة ، وإنما عبر شعيب - عليه السلام - عن النبوة بالرزق على وجه التشبيه مشاكلة لقولهم : أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء لأن الأموال أرزاق . وجواب الشرط محذوف يدل عليه سياق الكلام ، أو يدل عليه إن كنت على بينة من ربي . والتقدير : ماذا يسعكم في تكذيبي ، أو ماذا ينجيكم من عاقبة تكذيبي ، وهو تحذير لهم على فرض احتمال أن يكون صادقا ، أي فالحزم أن تأخذوا بهذا الاحتمال ، أو فالحزم أن تنظروا في كنه ما نهيتكم عنه لتعلموا أنه لصلاحكم .

ومعنى وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه عند جميع المفسرين من التابعين من بعدهم : ما أريد مما نهيتكم عنه أن أمنعكم أفعالا وأنا أفعلها ، أي لم أكن لأنهاكم عن شيء وأنا أفعله . وبين في الكشاف إفادة التركيب هذا المعنى بقوله " يقال : خالفني فلان إلى كذا إذا قصده وأنت مول عنه . . . ويلقاك الرجل صادرا عن الماء فتسأله عن صاحبه فيقول : خالفني إلى الماء ، يريد أنه قد ذهب إليه واردا وأنا ذاهب عنه صادرا " اهـ .

وبيانه أن المخالفة تدل على الاتصاف بضد حاله ، فإذا ذكرت في غرض دلت على الاتصاف بضده ، ثم يبين وجه المخالفة بذكر اسم الشيء الذي حصل [ ص: 144 ] به الخلاف مدخولا لحرف ( إلى ) الدال على الانتهاء إلى شيء كما في قولهم خالفني إلى الماء لتضمين ( أخالفكم ) معنى السعي إلى شيء . ويتعلق إلى ما أنهاكم بفعل ( أخالفكم ) ، ويكون أن أخالفكم مفعول ( أريد ) .

فقوله : أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه أي أن أفعل خلاف الأفعال التي نهيتكم عنها بأن أصرفكم عنها وأنا أصير إليها . والمقصود : بيان أنه مأمور بذلك أمرا يعم الأمة وإياه وذلك شأن الشرائع ، كما قال علماؤنا : إن خطاب الأمة يشمل الرسول - عليه الصلاة والسلام - ما لم يدل دليل على تخصيصه بخلاف ذلك ، ففي هذا إظهار أن ما نهاهم عنه ينهى أيضا نفسه عنه . وفي هذا تنبيه لهم على ما في النهي من المصلحة ، وعلى أن شأنه ليس شأن الجبابرة الذين ينهون عن أعمال وهم يأتونها ؛ لأن مثل ذلك ينبئ بعدم النصح فيما يأمرون وينهون ، إذ لو كانوا يريدون النصح والخير في ذلك لاختاروه لأنفسهم وإلى هذا المعنى يرمي التوبيخ في قوله - تعالى : أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون أي وأنتم تتلون كتاب الشريعة العامة لكم أفلا تعقلون فتعلموا أنكم أولى بجلب الخير لأنفسكم .

والذي يظهر لي في معنى الآية أن المراد من المخالفة المعاكسة والمنازعة ؛ إما لأنه عرف من ملامح تكذيبهم أنهم توهموه ساعيا إلى التملك عليهم والتجبر ، وإما لأنه أراد أن يقلع من نفوسهم خواطر الشر قبل أن تهجس فيها .

وهذا المحمل في الآية يسمح به استعمال التركيب ومقاصد الرسل وهو أشمل للمعاني من تفسير المتقدمين ، فلا ينبغي قصر تفسير الآية على ما قالوه لأنه لا يقابل قول قومه أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء ، فإنهم ظنوا به أنه ما قصد إلا مخالفتهم وتخطئتهم ونفوا أن يكون له قصد صالح فيما دعاهم إليه ، فكان مقتضى إبطال ظنتهم أن ينفي أن يريد مجرد مخالفتهم ، بدليل قوله عقبه إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت

[ ص: 145 ] فمعنى قوله : وما أريد أن أخالفكم أنه ما يريد مجرد المخالفة كشأن المنتقدين المتقعرين ولكن يخالفهم لمقصد سام وهو إرادة إصلاحهم . ومن هذا الاستعمال ما ورد في الحديث لما جاء وفد فزارة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - قال أبو بكر الصديق " أمر الأقرع بن حابس ، وقال عمر : أمر فلانا ، فقال أبو بكر لعمر : ما أردت إلى خلافي فقال عمر : ما أردت إلى خلافك " . فهذا التفسير له وجه وجيه في هذه الآية . وفي هذا ما يدل على أن المنتقدين قسمان قسم ينتقد الشيء ويقف عند حد النقد دون ارتقاء إلى بيان ما يصلح المنقود . وقسم ينتقد ليبين وجه الخطأ ثم يعقبه ببيان ما يصلح خطأه . وعلى هذا الوجه يتعلق ( إلى ما أنهاكم ) بفعل ( أريد ) وكذلك أن أخالفكم يتعلق بـ ( أريد ) على حذف حرف لام الجر . والتقدير : ما أريد إلى النهي لأجل أن أخالفكم ، أي لمحبة خلافكم .

وجملة إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت بيان لجملة ما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه لأن انتفاء إرادة المخالفة إلى ما نهاهم عنه مجمل فيما يريد إثباته من أضداد المنفي فبينه بأن الضد المراد إثباته هو الإصلاح في جميع أوقات استطاعته بتحصيل الإصلاح ، فالقصر قصر قلب .

وأفادت صيغة القصر تأكيد ذلك لأن القصر قد كان يحصل بمجرد الاقتصار على النفي والإثبات نحو أن يقول : ما أريد أن أخالفكم أريد الإصلاح ، كقول عبد الملك بن عبد الرحيم الحارثي أو السموأل :


تسيل على حد الظبات نفوسنـا وليست على غير الظبات تسيل



ولما بين لهم حقيقة عمله وكان في بيانه ما يجر الثناء على نفسه أعقبه بإرجاع الفضل في ذلك إلى الله فقال وما توفيقي إلا بالله فسمى إرادته الإصلاح توفيقا وجعله من الله لا يحصل في وقت إلا بالله ، أي بإرادته وهديه ، فجملة وما توفيقي إلا بالله في موضع الحال من ضمير ( أريد )

[ ص: 146 ] والتوفيق : جعل الشيء وفقا لآخر ، أي طبقا له ، ولذلك عرفوه بأنه خلق القدرة الداعية إلى الطاعة .

جملة عليه توكلت في موضع الحال من اسم الجلالة ، أو من ياء المتكلم في قوله : توفيقي لأن المضاف هنا كالجزء من المضاف إليه فيسوغ مجيء الحال من المضاف إليه .

والتوكل مضى عند قوله - تعالى : فإذا عزمت فتوكل على الله في سورة آل عمران .

والإنابة تقدمت آنفا في قوله : إن إبراهيم لحليم أواه منيب .

التالي السابق


الخدمات العلمية