الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              صفحة جزء


              384 - إبراهيم بن عبد الله

              ومنهم إبراهيم بن عبد الله بن أبي الأسود ، راوي الرسالة ، عن الحسن إلى عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنهم .

              حدثنا محمد بن بدر ، ثنا حماد بن مدرك ، ثنا يعقوب بن سفيان ، ثنا محمد [ ص: 313 ] بن يزيد الآدمي ، ثنا معن بن عيسى ، ثنا إبراهيم بن عبد الله بن أبي الأسود ، عن الحسن ، أنه كتب إلى عمر بن عبد العزيز : أما بعد ، فإن الدنيا دار ظعن ليست بدار إقامة ، إنما أنزل إليها آدم عقوبة فاحذرها يا أمير المؤمنين ، فإن الزاد منها تركها والغنى فيها فقرها ، لها في كل حين قتيل ، تذل من أعزها وتفقر من جمعها ، هي كالسم يأكله من لا يعرفه وهو حتفه ، فكن فيها كالمداوي لجراحته ، يحتمي قليلا مخافة ما يكره طويلا ، ويصبر على شدة الأذى مخافة طول البلاء ، واحذر هذه الدار الغرارة التي قد زينت بخدعها ، وتحلت بآمالها ، وتشوقت لخطابها ، وفتنت بغرورها ، فأصبحت كالعروس المحلاة ، العيون إليها ناظرة ، والقلوب إليها والهة ، والنفوس لها عاشقة ، وهي لأزواجها كلهم قاتلة ، فلا الباقي بالماضي معتبر ، ولا الآخر على الأول مزدجر ، ولا العارف بالله حين أخبره عنها مدكر .

              فعاشق لها قد ظفر منها بحاجته واغتر وطغى ونسي المعاد ، شغل فيها لبه حتى زلت عنه قدمه وعظمت ندامته وكبرت حسرته ، واجتمعت عليه سكرات الموت بألمه ، وحسرات الفوت بغصته ، فذهب بكمده ، فلم يدرك منها ما طلب ، ولم يروح نفسه من التعب ، خرج بغير زاد ، وقدم على غير مهاد ، فاحذرها يا أمير المؤمنين ، وكن أسر ما تكون أحذر ما تكون لها ، فإن صاحب الدنيا كلما اطمأن منها إلى سرور أشخصه إلى مكروه ، فالسار فيها بأهلها غار ، والنافع منها غدا ضار ، قد وصل الرجاء فيها بالبلاء ، وجعل البقاء فيها إلى فناء ، فسرورها مشوب بالحزن ، لا يرجع منها ما ولى فأدبر ، ولا يدرى ما هو آت فيستنظر ، أمانيها كاذبة ، وآمالها باطلة ، وصفوها كدر وعيشها نكد ، وابن آدم منها على خطر ، إن عقل فهو من النعماء على حظر ومن البلاء على حذر ، ولو أن الخالق لم يخبر عنها خبرا ، ولم يضرب لها مثلا لكانت الدنيا قد أيقظت النائم ، ونبهت الغافل .

              فكيف وقد جاء من الله عنها زاجر ، وفيها واعظ ، ما لها عند الله قدر ولا وزن ، ولا نظر إليها منذ خلقها ، ولقد عرضت على نبيك محمد صلى الله عليه وسلم بمفاتيح خزائنها ولا ينقصه ذلك عند الله جناح بعوضة ، فأبى أن يقبلها ، كره أن يخالف على ربه أمره أو [ ص: 314 ] يحب ما أبغض خالقه أو يرفع ما وضع مليكه ، فزواها عن الصالحين اختبارا ، وبسطها لأعدائه اغترارا ، فيظن المغرور بها القادر عليها أنه أكرم بها ، ونسي ما صنع الله لمحمد صلى الله عليه وسلم حين وضع الحجر على بطنه ، ولقد جاءت الرواية عن الله عز وجل أنه قال لموسى عليه السلام : " إذا رأيت الغنى مقبلا فقل ذنب عجلت عقوبته ، وإذا رأيت الفقر مقبلا فقل مرحبا بشعار الصالحين . وإن شئت ثنيت بصاحب الروح والكلمة عيسى ابن مريم كان يقول : إدامي الجوع ، وشعاري الخوف ، ولباسي الصوف ، وصلائي في الشتاء مشارق الشمس ، وسراجي القمر ، ودابتي رجلاي ، وطعامي وفاكهتي ما أنبتت الأرض ، أبيت وليس عندي شيء ، وأصبح وليس عندي شيء ، وما على الأرض أغنى مني .

              التالي السابق


              الخدمات العلمية