الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      والذين اتخذوا مسجدا عطف على ما سبق أي ومنهم الذين وجوز أن يكون مبتدأ خبره أفمن أسس والعائد محذوف للعلم به أي منهم أو الخبر محذوف أي فيمن وصفنا وأن يكون منصوبا بمقدر كأذم وأعني

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ نافع وابن عامر بغير واو، وفيه الاحتمالات السابقة إلا العطف، وأن يكون بدلا من (آخرون) على التفسير المرجوح، وقوله سبحانه: ضرارا مفعول له وكذا ما بعده وقيل: مصدر في موضع الحال أو مفعول ثان لاتخذوا على أنه بمعنى صيروا أو مفعول مطلق لفعل مقدر أي يضارون بذلك المؤمنين ضرارا، والضرار [ ص: 18 ] طلب الضرر ومحاولته أخرج ابن جرير وغيره عن ابن عباس أن جماعة من الأنصار قال لهم أبو عامر: ابنوا مسجدا واستمدوا ما استطعتم من قوة وسلاح فإني ذاهب إلى قيصر ملك الروم فآتي بجند من الروم فأخرج محمدا عليه الصلاة والسلام وأصحابه فلما فرغوا من مسجدهم أتوا النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فقالوا: قد فرغنا من بناء مسجدنا فنحب أن تصلي فيه وتدعو بالبركة فنزلت . وأخرج ابن إسحق وابن مردويه عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: أتى أصحاب مسجد الضرار رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وهو يتجهز إلى تبوك فقالوا: يا رسول الله إنا قد بنينا مسجدا لذي العلة والحاجة والليلة المطيرة والليلة الشاتية وإنا نحب أن تأتينا فتصلي لنا فيه فقال صلى الله تعالى عليه وسلم: إني على جناح سفر وحال شغل أو كما قال عليه الصلاة والسلام ولو قدمنا إن شاء الله تعالى لأتيناكم فصلينا لكم فيه فلما رجع إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم من سفره ونزل بذي أوان بلد بينه وبين المدينة ساعة من نهار أتاه خبر المسجد فدعا مالك بن الدخشم أخا بني سالم بن عوف ومعن بن عدي وأخاه عاصم بن عدي أحد بلعجان فقال: انطلقا إلى هذا المسجد الظالم أهله فاهدماه وأحرقاه فخرجا سريعين حتى أتيا بني سالم بن عوف وهم رهط مالك فقال مالك لصاحبه: أنظرني حتى أخرج لك بنار من أهلي فدخل إلى أهله فأخذ سعفا من النخل فأشعل فيه نارا ثم خرجا يشتدان حتى دخلاه وفيه أهله فأحرقاه وهدماه وتفرقوا عنه ونزل فيهم من القرآن ما نزل وكان البانون اثني عشر رجلا: خذام بن خالد من بني عبيد بن زيد أحد بني عمرو بن عوف ومن داره أخرج المسجد، وعباد بن حنيف من بني عمرو بن عوف أيضا، وثعلبة بن حاطب، ووديعة بن ثابت وهما من بني أمية بن زيد رهط أبي لبابة بن عبد المنذر، ومعتب بن قشير، وأبو حبيبة بن الأزعر، وحارثة بن عامر وابناه مجمع وزيد، ونبيل بن الحرث، ونجاد بن عثمان، وبجدح من بني ضبيعة . وذكر البغوي من حديث ذكره الثعلبي - كما قال العراقي - بدون سند أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أمر بعد حرق المسجد وهدمه أن يتخذ كناسة يلقى فيها الجيف والنتن والقمامة إهانة لأهله لما أنهم اتخذوه ضرارا وكفرا أي وليكفروا فيه، وقدر بعضهم التقوية أي وتقوية الكفر الذي يضمرونه وقيل عليه: إن الكفر يصلح علة فما الحاجة إلى التقدير . واعتذر بأنه يحتمل أن يكون ذلك لما أن اتخاذه ليس بكفر بل مقوله لما اشتمل عليه فتأمل وتفريقا بين المؤمنين وهم كما قال السدي أهل قباء فإنهم كانوا يصلون في مسجدهم جميعا فأراد هؤلاء حسدا أن يتفرقوا وتختلف كلمتهم وإرصادا أي ترقبا وانتظارا لمن حارب الله ورسوله وهو أبو عامر والد حنظلة غسيل الملائكة - رضي الله تعالى عنه - وكان قد ترهب في الجاهلية ولبس المسوح وتنصر فلما قدم النبي صلى الله تعالى عليه وسلم المدينة قال له أبو عامر: ما هذا الدين الذي جئت به؟ فقال صلى الله تعالى عليه وسلم: الحنيفية البيضاء دين إبراهيم عليه السلام . قال: فأنا عليها . فقال له عليه الصلاة والسلام: إنك لست عليها . فقال: بلى ولكنك أنت أدخلت فيها ما ليس منها . فقال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم: ما فعلت ولكن جئت بها بيضاء نقية . فقال أبو عامر: أمات الله تعالى الكاذب منا طريدا وحيدا . فأمن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فسماه الناس أبا عامر الكذاب، وسماه النبي صلى الله تعالى عليه وسلم الفاسق فلما كان يوم أحد قال للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم: لا أجد قوما يقاتلونك إلا قاتلتك معهم فلم يزل كذلك إلى يوم حنين فلما انهزمت هوازن يومئذ [ ص: 19 ] ولى هاربا إلى الشام وأرسل إلى المنافقين يحثهم على بناء مسجد كما ذكرنا آنفا عن الحبر فبنوه وبقوا منتظرين قدومه ليصلي فيه ويظهر على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فهدم كما مر ومات أبو عامر وحيدا بقنسرين وبقي ما أضمروه حسرة في قلوبهم

                                                                                                                                                                                                                                      من قبل متعلق بحارب أي حارب الله ورسوله عليه الصلاة والسلام قبل هذا الاتخاذ أو متعلق باتخذوا أي اتخذوه من قبل أن ينافقوا بالتخلف حيث كانوا بنوه قبل غروة تبوك كما سمعت، والمراد المبالغة في الذم وليحلفن إن أردنا أي ما أردنا ببناء هذا المسجد إلا الحسنى أي إلا الخصلة الحسنى وهي الصلاة، وذكر الله تعالى والتوسعة على المصلين، فالحسنى تأنيث الأحسن وهو في الأصل صفة الخصلة وقد وقع مفعولا به لأردنا، وجوز أن يكون قائما مقام مصدر محذوف أي الإرادة الحسنى والله يشهد إنهم لكاذبون 107 فيما حلفوا عليه

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية