الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      ولله المشرق والمغرب أي الناحيتان المعلومتان المجاورتان لنقطة تطلع منها الشمس وتغرب، وكنى بمالكيتهما عن مالكية كل الأرض، وقال بعضهم : إذا كانت الأرض كروية يكون كل مشرق بالنسبة مغربا بالنسبة، والأرض كلها كذلك، فلا حاجة إلى التزام الكناية، وفيه بعد، فأينما تولوا أي ففي أي مكان فعلتم التولية شطر القبلة، وقرأ الحسن (تولوا) على الغيبة، فثم وجه الله أي فهناك جهته سبحانه التي أمرتم بها، فإذا مكان التولية لا يختص بمسجد دون مسجد، ولا مكان دون آخر، (فأينما) ظرف لازم الظرفية متضمن لمعنى الشرط، وليس مفعولا (لتولوا)، والتولية بمعنى الصرف منزل منزلة اللازم، (وثم) اسم إشارة للمكان البعيد خاصة، مبني على الفتح، ولا يتصرف فيه بغير من، وقد وهم من أعربه مفعولا به، في قوله تعالى: وإذا رأيت ثم رأيت نعيما وهو خبر مقدم، وما بعده مبتدأ مؤخر، والجملة جواب الشرط، والوجه الجهة كالوزن والزنة، واختصاص الإضافة باعتبار كونها مأمورا بها، وفيها رضاه سبحانه، وإلى هذا ذهب الحسن ، ومقاتل، ومجاهد، وقتادة، وقيل : الوجه بمعنى الذات مثله في قوله تعالى : كل شيء هالك إلا وجهه إلا أنه جعل هنا كناية عن علمه واطلاعه بما يفعل هناك، وقال أبو منصور : بمعنى الجاه ويؤول إلى الجلال والعظمة، والجملة على هذا اعتراض لتسلية قلوب المؤمنين بحل الذكر والصلاة في جميع الأرض لا في المساجد خاصة، وفي الحديث الصحيح: (جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا)، ولعل غيره عليه الصلاة والسلام لم تبح له الصلاة في غير البيع والكنائس، وصلاة عيسى عليه السلام في أسفاره في غيرها كانت عن ضرورة، فلا حاجة إلى القول باختصاص المجموع، وجوز أن تكون (أينما) مفعول (تولوا) بمعنى الجهة، فقد شاع في الاستعمال: أينما توجهوا بمعنى أي جهة توجهوا بناء على ما روي عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن الآية نزلت في صلاة المسافر والتطوع على الراحلة، وعلى ما روي عن جابر أنها نزلت في قوم عميت عليهم القبلة في غزوة كنت فيها معهم، فصلوا إلى الجنوب والشمال، فلما أصبحوا تبين خطؤهم، ويحتمل على هاتين الروايتين أن تكون (أينما)، كما في الوجه الأول أيضا، ويكون المعنى: في أي مكان فعلتم أي تولية، لأن حذف المفعول به يفيد العموم، واقتصر عليه بعضهم مدعيا أن ما تقدم لم يقل به أحد من أهل العربية، ومن الناس من قال : الآية توطئة لنسخ القبلة وتنزيه للمعبود أن يكون في حيز وجهة، وإلا لكانت أحق بالاستقبال، وهي محمولة على العموم غير مختصة بحال السفر أو حال التحري، والمراد بأينما أي جهة، وبالوجه الذات، ووجه الارتباط حينئذ أنه لما جرى ذكر المساجد سابقا، أورد بعدها تقريبا حكم القبلة على سبيل الاعتراض، وادعى بعضهم أن هذا أصح الأقوال، وفيه تأمل، إن الله واسع أي محيط بالأشياء ملكا، أو رحمة، فلهذا وسع عليكم القبلة، ولم يضيق عليكم، عليم بمصالح العباد، وأعمالهم [ ص: 366 ] في الأماكن، والجملة على الأول تذييل لمجموع ولله المشرق والمغرب إلخ، وعلى الثاني تذييل لقوله سبحانه : فأينما تولوا إلخ، ومن الغريب جعل ذلك تهديدا لمن منع مساجد الله، وجعل الخطاب المتقدم لهم أيضا، فيؤول المعنى إلى أنه لا مهرب من الله تعالى لمن طغى، ولا مفر لمن بغى، لأن فلك سلطانه حدد الجهات وسلطان علمه أحاط بالأفلاك الدائرات


                                                                                                                                                                                                                                      أين المفر ولا مفر لهارب وله البسيطان الثرى والماء

                                                                                                                                                                                                                                      ومن باب الإشارة: أن المشرق عبارة عن عالم النور والظهور، وهو جنة النصارى وقبلتهم بالحقيقة باطنه، والمغرب عالم الأسرار، والخفاء، وهو جنة اليهود وقبلتهم بالحقيقة باطنه، أو المشرق عبارة عن إشراقه سبحانه على القلوب بظهور أنواره فيها والتجلي لها بصفة جماله حالة الشهود، والمغرب عبارة عن الغروب بتستره، واحتجابه، واختفائه بصفة جلاله حالة البقاء بعد الفناء، ولله تعالى كل ذلك، فأي جهة يتوجه المرء من الظاهر والباطن، فثم وجه الله، المتحلي بجميع الصفات، المتجلي بما شاء، منزها عن الجهات، وقد قال قائل القوم :


                                                                                                                                                                                                                                      وما الوجه إلا واحد غير أنه     إذا أنت عددت المرايا تعدد

                                                                                                                                                                                                                                      إن الله واسع لا يخرج شيء عن إحاطته عليم فلا يخفى عليه شيء من أحوال خليقته، ومظاهر صفته.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية