الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                فلما فصل طالوت بالجنود قال إن الله مبتليكم بنهر فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني إلا من اغترف غرفة بيده فشربوا منه إلا قليلا منهم فلما جاوزه هو والذين آمنوا معه قالوا لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده قال الذين يظنون أنهم ملاقو الله كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين

                                                                                                                                                                                                "فصل": عن موضع كذا، إذا انفصل عنه وجاوزه، وأصله: فصل نفسه، ثم كثر محذوف المفعول، حتى صار في حكم غير المتعدي كانفصل، وقيل: فصل عن البلد فصولا، ويجوز أن يكون: فصله فصلا، وفصل فصولا كوقف وصد ونحوهما، والمعنى: انفصل عن بلده "بالجنود": روي أنه قال لقومه: لا يخرج معي رجل بنى بناء لم يفرغ منه، ولا تاجر مشتغل بالتجارة، ولا رجل متزوج بامرأة لم يبن عليها، ولا أبتغي إلا الشاب النشيط الفارغ، فاجتمع إليه مما اختاره ثمانون ألفا، وكان الوقت قيظا، وسلكوا مفازة، فسألوا أن يجري الله لهم نهرا، فـ قال إن الله مبتليكم : بما اقترحتموه من النهر فمن شرب منه : فمن ابتدأ شربه من النهر بأن كرع فيه، فليس مني : فليس بمتصل بي ومتحد معي، من قولهم: فلان مني كأنه بعضه; لاختلاطهما واتحادهما، ويجوز أن يراد فليس من جملتي وأشياعي، ومن لم يطعمه : ومن لم يذقه، من طعم الشيء إذا ذاقه، ومنه طعم الشيء لمذاقه قال [من الطويل]:


                                                                                                                                                                                                وإن شئت لم أطعم نقاخا ولا بردا



                                                                                                                                                                                                [ ص: 475 ] ألا ترى كيف عطف عليه البرد وهو النوم، ويقال: ما ذقت غماضا، ونحوه من الابتلاء: ما ابتلى الله به أهل أيلة من ترك الصيد مع إتيان الحيتان شرعا، بل هو أشد منه وأصعب، وإنما عرف ذلك طالوت بإخبار من النبي، وإن كان نبيا -كما يروى عن بعضهم- فبالوحي، وقرئ: (بنهر) بالسكون.

                                                                                                                                                                                                فإن قلت: مم استثني قوله: إلا من اغترف ؟ قلت: من قوله: فمن شرب منه فليس مني والجملة الثانية في حكم المتأخرة، إلا إنها قدمت للعناية كما قدم "والصابئون" في قوله: إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون [المائدة: 69] ومعناه: الرخصة في اغتراف الغرفة باليد دون الكروع، والدليل عليه قوله: فشربوا منه أي: فكرعوا فيه، إلا قليلا منهم : وقرئ: (غرفة) بالفتح بمعنى المصدر، وبالضم بمعنى المغروف، وقرأ أبي والأعمش : (إلا قليل)، بالرفع، وهذا من ميلهم مع المعنى والإعراض عن اللفظ جانبا، وهو باب جليل من علم العربية، فلما كان معنى: فشربوا منه في معنى فلم يطيعوه حمل عليه، كأنه قيل: فلم يطيعوه إلا قليل منهم، ونحوه قول الفرزدق [من الطويل]:


                                                                                                                                                                                                .... لم يدع     من المال إلا مسحت أو مجلف



                                                                                                                                                                                                [ ص: 476 ] كأنه قال: لم يبق من المال إلا مسحت أو مجلف، وقيل: لم يبق مع طالوت إلا ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا، والذين آمنوا يعني القليل.

                                                                                                                                                                                                قال الذين يظنون : يعني الخلص منهم الذين نصبوا بين أعينهم لقاء الله وأيقنوه، أو الذين تيقنوا أنهم يستشهدون عما قريب ويلقون الله، والمؤمنون مختلفون في قوة اليقين ونصوع البصيرة، وقيل: الضمير في قالوا لا طاقة لنا : للكثير الذين انخذلوا، والذين يظنون هم القليل الذين ثبتوا معه، كأنهم تقاولوا بذلك والنهر بينهما، يظهر أولئك عذرهم في الانخذال، ويرد عليهم هؤلاء ما يعتذرون به، وروي: أن الغرفة كانت تكفي الرجل لشربه وإداوته، والذين شربوا منه اسودت شفاههم وغلبهم العطش.

                                                                                                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                                                                                                الخدمات العلمية