الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
القول في تأويل قوله تعالى ذكره : ( مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون ( 38 ) )

قال أبو جعفر : والهدى ، في هذا الموضع ، البيان والرشاد . كما :

794 - حدثنا المثنى بن إبراهيم ، قال : حدثنا آدم العسقلاني قال : حدثنا أبو جعفر ، عن الربيع ، عن أبي العالية ، في قوله : " فإما يأتينكم مني هدى " قال : الهدى ، الأنبياء والرسل والبيان . .

فإن كان ما قال أبو العالية في ذلك كما قال ، فالخطاب بقوله : " اهبطوا " وإن كان لآدم وزوجته ، فيجب أن يكون مرادا به آدم وزوجته وذريتهما . فيكون ذلك حينئذ نظير قوله : ( فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين ) [ سورة فصلت : 11 ] ، بمعنى أتينا بما فينا من الخلق طائعين ، ونظير قوله في قراءة [ ص: 550 ] ابن مسعود : ( ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وأرهم مناسكهم ) [ سورة البقرة : 128 ] ، فجمع قبل أن تكون ذرية ، وهو في قراءتنا : " وأرنا مناسكنا " وكما يقول القائل لآخر : " كأنك قد تزوجت وولد لك ، وكثرتم وعززتم " ونحو ذلك من الكلام .

وإنما قلنا إن ذلك هو الواجب على التأويل الذي ذكرناه عن أبي العالية ، لأن آدم كان هو النبي أيام حياته بعد أن أهبط إلى الأرض ، والرسول من الله جل ثناؤه إلى ولده . فغير جائز أن يكون معنيا - وهو الرسول صلى الله عليه وسلم - بقوله : " فإما يأتينكم مني هدى " خطابا له ولزوجته ، " فإما يأتينكم مني أنبياء ورسل " إلا على ما وصفت من التأويل .

وقول أبي العالية في ذلك - وإن كان وجها من التأويل تحتمله الآية - فأقرب إلى الصواب منه عندي وأشبه بظاهر التلاوة ، أن يكون تأويلها : فإما يأتينكم يا معشر من أهبط إلى الأرض من سمائي ، وهو آدم وزوجته وإبليس - كما قد ذكرنا قبل في تأويل الآية التي قبلها - إما يأتينكم مني بيان من أمري وطاعتي ، ورشاد إلى سبيلي وديني ، فمن اتبعه منكم فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون ، وإن كان قد سلف منهم قبل ذلك إلي معصية وخلاف لأمري وطاعتي . يعرفهم بذلك جل ثناؤه أنه التائب على من تاب إليه من ذنوبه ، والرحيم لمن أناب إليه ، كما وصف نفسه بقوله : " إنه هو التواب الرحيم "

وذلك أن ظاهر الخطاب بذلك إنما هو للذين قال لهم جل ثناؤه : " اهبطوا منها جميعا " والذين خوطبوا به هم من سمينا في قول الحجة من الصحابة والتابعين الذين قد قدمنا الرواية عنهم . . وذلك ، وإن كان خطابا من الله جل ذكره لمن أهبط [ ص: 551 ] حينئذ من السماء إلى الأرض ، فهو سنة الله في جميع خلقه ، وتعريف منه بذلك الذين أخبر عنهم في أول هذه السورة بما أخبر عنهم في قوله ( : إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون ) [ سورة البقرة : 6 ] ، وفي قوله : ( ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين ) [ سورة البقرة : 8 ] ، وأن حكمه فيهم - إن تابوا إليه وأنابوا واتبعوا ما أتاهم من البيان من عند الله على لسان رسوله محمد صلى الله عليه وسلم - أنهم عنده في الآخرة ممن لا خوف عليهم ولا هم يحزنون ، وأنهم إن هلكوا على كفرهم وضلالتهم قبل الإنابة والتوبة ، كانوا من أهل النار المخلدين فيها .

وقوله : " فمن تبع هداي " يعني : فمن اتبع بياني الذي آتيته على ألسن رسلي ، أو مع رسلي . كما :

795 - حدثنا به المثنى ، قال : حدثنا آدم ، قال : حدثنا أبو جعفر ، عن الربيع ، عن أبي العالية : " فمن تبع هداي " يعني بياني . .

وقوله : " فلا خوف عليهم " يعني فهم آمنون في أهوال القيامة من عقاب الله ، غير خائفين عذابه ، بما أطاعوا الله في الدنيا واتبعوا أمره وهداه وسبيله ، ولا هم يحزنون يومئذ على ما خلفوا بعد وفاتهم في الدنيا . كما :

796 - حدثني يونس بن عبد الأعلى ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال قال ابن زيد : " لا خوف عليهم" يقول : لا خوف عليكم أمامكم .

وليس شيء أعظم في صدر الذي يموت مما بعد الموت . فأمنهم منه وسلاهم عن الدنيا فقال : " ولا هم يحزنون "

التالي السابق


الخدمات العلمية