الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
      صفحة جزء
      [ ص: 483 ] التعريف بالشرك

      ( وهو ) أي الشرك الذي تقدم ذكره في المتن وذكر النصوص فيه في الشرح ( اتخاذ العبد غير الله ) من نبي أو ولي أو ملك أو قبر أو جني أو شجر أو حجر أو حيوان أو نار أو شمس أو قمر أو كوكب أو غير ذلك . ( ندا ) من دون الله ( مسويا به ) الله يحبه كحب الله ويخافه ويخشاه كخشية الله ويتبعه على غير مرضاة الله ويطيعه في معصية الله ويشركه في عبادة الله ( مضاه ) به الله ، قال الله تعالى : ( ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله ) ( البقرة : 165 ) وحكى عنهم في اختصامهم في النار : ( قالوا وهم فيها يختصمون تالله إن كنا لفي ضلال مبين إذ نسويكم برب العالمين ) ( الشعراء 96 - 98 ) وقد أخبرنا الله عز وجل أنهم لم يسووهم به في خلق ولا رزق ولا إحياء ولا إماتة ولا في شيء من تدبير الملكوت ، بل أخبرنا أنهم مقرون لله تعالى بالربوبية : ( ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن خلقهن العزيز العليم ) ( الزخرف : 9 ) وغير ذلك من الآيات والأحاديث التي تقدمت ، ولكنهم سووهم بالله تعالى في حبهم إياهم كحب الله ولم يجعلوا المحبة لله وحده ، في خوفهم منهم وخشيتهم كخشية الله ، ولم يجعلوا الخشية لله والخوف من الله وحده ، وأشركوهم في عبادة الله ولم يفردوا الله بالعبادة دون من سواه ، مع أنهم لم يعبدوهم استقلالا ، بل زعموهم شفعاء لهم عند الله ليقربوهم إلى الله زلفى ، ولكن اعتقدوا تلك الشفاعة والتقريب ملكا للمخلوق ويبطلونه منه ، وأن له أن يشفع بدون إذن الله ، والله تعالى يقول : ( ما من شفيع إلا من بعد إذنه ) ( يونس : 3 ) ولهذا سمى الله تعالى استشفاعهم ذلك شركا ، كما قال تعالى : ( ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السماوات ولا في الأرض سبحانه وتعالى عما يشركون ) ( يونس : 18 ) فجمعوا في ذلك بين شركين : الأول عبادتهم إياهم من دون الله عز وجل ، والثاني جعلهم شفعاء بدون إذن الله عز وجل ، وقال تعالى : ألا لله الدين الخالص والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى ) [ ص: 484 ] ( الزمر : 3 ) وقال تعالى : ( وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء ) ( الأنعام : 94 ) .

      وأيضا فقد أخبرنا الله تعالى أنهم إنما كانوا يعبدون معه غيره في الرخاء ، وأما في الشدة فكانوا يخلصون العبادة لله ، قال الله تعالى : ( فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون ) ( العنكبوت : 65 ) وقال تعالى : ( هو الذي يسيركم في البر والبحر حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها جاءتها ريح عاصف وجاءهم الموج من كل مكان وظنوا أنهم أحيط بهم دعوا الله مخلصين له الدين لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين فلما أنجاهم إذا هم يبغون في الأرض بغير الحق ) ( يونس : 22 - 23 ) وقال تعالى : ( قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر تدعونه تضرعا وخفية لئن أنجانا من هذه لنكونن من الشاكرين قل الله ينجيكم منها ومن كل كرب ثم أنتم تشركون ) ( الأنعام : 63 ) .

      وقال تعالى : ( وإذا مس الإنسان ضر دعا ربه منيبا إليه ثم إذا خوله نعمة منه نسي ما كان يدعو إليه من قبل وجعل لله أندادا ليضل عن سبيله ) ( الزمر : 8 ) وقال تعالى : ( وإذا مس الناس ضر دعوا ربهم منيبين إليه ثم إذا أذاقهم منه رحمة إذا فريق منهم بربهم يشركون ) ( الروم : 33 ) وقال تعالى : ( وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه فلما نجاكم إلى البر أعرضتم وكان الإنسان كفورا ) ( الإسراء : 67 ) الآيات . وقال تعالى : ( قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة أغير الله تدعون إن كنتم صادقين بل إياه تدعون فيكشف ما تدعون إليه إن شاء وتنسون ما تشركون ) ( الأنعام : 40 - 41 ) وغير ذلك من الآيات .

      وفي حديث حصين المتقدم ، لما قال له النبي صلى الله عليه وسلم : " كم تعبد اليوم من إله ؟ " قال : سبعة ; ستة في الأرض وواحد في السماء . قال : " فمن تعبد لرغبتك ورهبتك ؟ " قال : الذي في السماء .

      ولما ركب بعض مشركي قريش فارا من النبي صلى الله عليه وسلم [ ص: 485 ] حين فتح مكة ، فلما اضطرب البحر عليهم وشاهدوا من أمر الله ما شاهدوا ، فقال بعضهم لبعض : ادعوا الله فإنه لا ينجيكم من هذه إلا هو . فقال : والله إن كان لا ينفع في البحر إلا هو فإنه لا ينفع في البر إلا هو ، لئن أخرجني الله من هذه لأذهبن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلأضعن يدي في يده . وهذا بخلاف مشركي زماننا اليوم من عباد القبور وغيرها ، فإنهم يشركون في الشدة أضعاف شركهم في الرخاء ، حتى إن كانوا ينذرون لهذا الولي في الرخاء ببعير أو تبيع أو شاة أو دينار أو درهم أو نحو ذلك فأصابتهم الشدة زادوا ضعف ذلك ، فجعلوا له بعيرين أو تبيعين أو شاتين أو دينارين أو درهمين أو غير ذلك . وأيضا فإنهم يعتقدون فيهم من صفات الربوبية وأنهم متصرفون فيما لا يقدر عليه إلا الله ، وغلا بعضهم حتى جعل منهم المتصرف في تدبير الكون على سبيل الاستقلال ، ويقولون فيه : إنها لا تتحرك ذرة ولا تسكن إلا بإذن فلان ، تعالى الله وتقدس وجل وعلا عن أن يكون معه إله غيره ، أو يكون له شريك في الملك أو ولي من الذل ، ( لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا ) ( ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض سبحان الله عما يصفون عالم الغيب والشهادة فتعالى عما يشركون ) ( قل لو كان معه آلهة كما يقولون إذا لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا سبحانه وتعالى عما يقولون علوا كبيرا تسبح له السماوات السبع والأرض ومن فيهن وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم إنه كان حليما غفورا ) وغير ذلك من الآيات .


      يقصده عند نزول الضر لجلب خير أو لدفع الشر     أو عند أي غرض لا يقدر
      عليه إلا المالك المقتدر     مع جعله لذلك المدعو
      أو المعظم أو المرجو     في الغيب سلطانا به يطلع
      على ضمير من إليه يفزع

      .

      [ ص: 486 ] ( يقصده ) أي المتخذ ذلك الند من دون الله يقصد نده عند نزول الضر به من خير فاته أو شر دهمه ( لجلب خير ) له أو ( لدفع الشر عنه ) ( أو عند ) احتياج ( أي غرض ) من الأغراض ، والحال أنه ( لا يقدر عليه ) أي على ذلك الغرض ( إلا المالك المقتدر ) وهو الله سبحانه وتعالى ( مع جعله ) أي العبد ( لذلك المدعو أو المعظم أو المرجو ) من ملك أو نبي أو ولي أو قبر أو شجر أو حجر أو كوكب أو جني ( في الغيب سلطانا ) ; أي يعتقد أن له سلطانا غيبيا فوق طوق البشر ( به يطلع ) ; أي بذلك السلطان الذي اعتقده فيه ( على ضمير من إليه ) إلى ذلك الند ( يفزع ) في قضاء أي حاجة من شفاء مريض أو رد غائب أو غير ذلك ، فيرى أنه يسمعه إذا دعاه ويرى مكانه ويعلم حاجته ويقضيها بقدرة اعتقدها فيه مع الله ، والمقصود أنه يثبت له من صفات الربوبية ما يرفعه عن درجة العبودية إلى درجة الربوبية ، ويجعله مستحقا العبادة مع الله . ومن هنا يتبين لك ما قدمنا من أن الشرك في الألوهية يستلزم الشرك في الربوبية والأسماء والصفات ولا بد ، ويتبين لك عظم ذنب الشرك وأنه أقبح الذنوب وأظلم الظلم وأكبر الكبائر ، وأن الله تعالى لا يغفره ولا يقبل لأحد معه عملا ، وأنه لا أشد هلكة منه ، وما أرسل الله الرسل وأنزل الكتب إلا بالنذارة عن الشرك والدعوة إلى التوحيد ، وما هلكت الأمم الغابرة وأعدت لهم النيران في الآخرة إلا بالشرك والإباء عن التوحيد ، ولا نجا الرسل وأتباعهم من خزي الدنيا وعذاب الآخرة إلا بالتزام التوحيد والبراءة من الشرك ، فما هلك قوم نوح بالطوفان ، ولا عاد بالريح العظيم ، ولا ثمود بالصيحة ، ولا أهل مدين بعذاب يوم الظلة ، إلا بالشرك وعبادة الأصنام ، وهكذا الأمم من بعدهم بأنواع العذاب ، ولم يخرج عصاة الموحدين من النار في الآخرة إلا بالتوحيد ، ولم يخلد غيرهم فيها أبدا مؤبدا إلا بالشرك ، ثم اعلم أن ما عبد من دون الله إما عاقل أو غير عاقل ، فالعاقل كالآدمي والملائكة والجن وينقسمون إلى قسمين : راض بالعبادة له وغير راض بها . فالأول كفرعون وإبليس وغيرهما من الطواغيت ، وهؤلاء في النار مع عابديهم ، كما قال الله عز وجل : ( إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ورأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب وقال الذين اتبعوا لو أن لنا كرة فنتبرأ منهم كما تبرءوا منا كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم وما هم بخارجين من النار ) [ ص: 487 ] ( البقرة : 166 ) .

      وقال تعالى في شأن إبليس : ( لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين ) ( ص : 85 ) وقال في شأن فرعون : ( يقدم قومه يوم القيامة فأوردهم النار وبئس الورد المورود ) ( هود : 98 ) وقال تعالى : ( وقال الذين كفروا ربنا أرنا الذين أضلانا من الجن والإنس نجعلهما تحت أقدامنا ليكونا من الأسفلين ) ( فصلت : 29 ) وقال تعالى : ( ويوم يحشرهم جميعا يامعشر الجن قد استكثرتم من الإنس وقال أولياؤهم من الإنس ربنا استمتع بعضنا ببعض وبلغنا أجلنا الذي أجلت لنا قال النار مثواكم خالدين فيها إلا ما شاء الله ) ( الأنعام : 128 ) وغير ذلك من الآيات .

      والقسم الثاني وهو من كان مطيعا لله وغير راض بالعبادة له من دون الله ، كعيسى ومريم وعزير والملائكة وغيرهم ، فهم برآء ممن عبدهم في الدنيا والآخرة ، كما قال الله تعالى عن عيسى عليه السلام : ( وإذ قال الله ياعيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب ) ( المائدة : 116 ) إلى آخر الآيات . وقال تعالى في شأن الملائكة : ( ويوم يحشرهم جميعا ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون ) ( سبأ : 40 ) .

      وقال تعالى في شأن كل من عبد من دون الله تعالى من الملائكة وعيسى وأمه وعزير وغيرهم من أولياء الله مطلقا إلى يوم القيامة : ( ويوم يحشرهم وما يعبدون من دون الله فيقول أأنتم أضللتم عبادي هؤلاء أم هم ضلوا السبيل قالوا سبحانك ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك من أولياء ولكن متعتهم وآباءهم حتى نسوا الذكر وكانوا قوما بورا فقد كذبوكم بما تقولون فما تستطيعون صرفا ولا نصرا ) ( الفرقان : 17 - 19 ) الآية وغيرها من الآيات .

      [ ص: 488 ] وأما غير العاقل من الأشجار والأحجار وغيرها مما لا يعقل فيشملها قوله تعالى : ( إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون لو كان هؤلاء آلهة ما وردوها وكل فيها خالدون ) ( الأنبياء : 98 - 99 ) ولكن الأحجار لا أرواح فيها وإنما يعذب بها من عبدها من دون الله ، كما قال تعالى : ( ياأيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا وقودها الناس والحجارة ) ( التحريم : 6 ) الآية . وكما يعذب عبد الدينار والدرهم بهما ، كما قال الله عز وجل : ( والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم ) ( التوبة : 34 - 35 ) .

      وفي الصحيح من حديث أبي سعيد في الشفاعة بطوله ، وفيه : " ينادي مناد : ليذهب كل قوم إلى ما كانوا يعبدون . فيذهب أصحاب الصليب مع صليبهم ، وأصحاب الأوثان مع أوثانهم ، وأصحاب كل آلهة مع آلهتهم " . وفيه في حديث أبي هريرة رضي الله عنه : " يجمع الله الناس يوم القيامة فيقول : من كان يعبد شيئا فليتبعه . فيتبع من كان يعبد الشمس الشمس ، ويتبع من كان يعبد القمر القمر ، ويتبع من كان يعبد الطواغيت الطواغيت " الحديث .

      وفي حديث الصور الطويل : " ألا ليلحق كل قوم بما كانوا يعبدون من دون الله ، فلا يبقى أحد عبد من دون الله إلا مثلت له آلهته بين يديه ويجعل يومئذ ملك من الملائكة على صورة عزير ، ويجعل ملك من الملائكة على صورة عيسى بن مريم ، ثم يتبع هذا اليهود وهذا النصارى ، ثم قادتهم آلهتهم إلى النار ، وهو الذي يقول تعالى : ( لو كان هؤلاء آلهة ما وردوها وكل فيها خالدون ) . وفي حديث ابن مسعود رضي الله عنه عند الدراقطني والطبراني وعبد الله بن أحمد وغيرهم من المصنفين [ ص: 489 ] في السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الحديث بطوله . وفيه : " ثم ينادي : أيها الناس ، ألم ترضوا من ربكم الذي خلقكم ورزقكم وأمركم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا أن يولي كل أناس منكم ما كانوا يتولون ويعبدون في الدنيا ، أليس ذلك عدلا من ربكم ؟ قالوا : بلى . قال : فينطلق كل قوم إلى ما كانوا يعبدون ويتولون في الدنيا . قال : فينطلقون ويمثل لهم أشباه ما كانوا يعبدون ، فمنهم من ينطلق إلى الشمس ، ومنهم من ينطلق إلى القمر وإلى الأوثان من الحجارة وأشباه ما كانوا يعبدون . قال : ويمثل لمن كان يعبد عيسى شيطان عيسى ، ويمثل لمن كان يعبد عزيرا شيطان عزيز ، ويبقى محمد صلى الله عليه وسلم وأمته " الحديث . قلت : وقوله : " ويمثل لهم أشباه ما كانوا يعبدون " إلخ ، هذا في مثل عيسى وعزير . وأما عبدة الطاغوت فتقودهم طواغيتهم حقيقة لا أشباهها ، كما صرح به الكتاب والسنة . والله أعلم .

      التالي السابق


      الخدمات العلمية