الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            باب إدخال الحج على العمرة

                                                                                                                                            1854 - ( عن نافع قال : { أراد ابن عمر الحج عام حجة الحرورية في عهد ابن الزبير ، فقيل له : إن الناس كائن بينهم قتال فنخاف أن يصدوك فقال : { لقد كان لكم في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أسوة حسنة } . إذن أصنع كما صنع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أشهدكم أني قد أوجبت عمرة ، ثم خرج حتى إذا كان بظاهر البيداء قال : ما شأن الحج والعمرة إلا واحد أشهدكم أني قد جمعت حجة مع عمرتي ، وأهدى هديا مقلدا اشتراه بقديد ، [ ص: 375 ] وانطلق حتى قدم مكة فطاف بالبيت وبالصفا ، ولم يزد على ذلك ولم يحلل من شيء حرم منه حتى يوم النحر فحلق ونحر ، ورأى أن قد قضى طواف الحج والعمرة بطوافه الأول ، ثم قال : هكذا صنع النبي - صلى الله عليه وسلم - . } متفق عليه )

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            . قوله : ( حجة الحرورية ) هم الخوارج ، ولكنهم حجوا في السنة التي مات فيها يزيد بن معاوية سنة أربع وستين وذلك قبل أن يتسمى ابن الزبير بالخلافة ، ونزل الحجاج بابن الزبير في سنة ثلاث وسبعين وذلك في آخر أيام ابن الزبير ، فإما أن يحمل على أن الراوي أطلق على الحجاج وأتباعه حرورية لجامع ما بينهم من الخروج على أئمة الحق ، وإما أن يحمل على تعدد القصة ، وأن الحرورية حجت سنة أخرى ، ولكنه يؤيد الأول ما في بعض طرق البخاري من طريق الليث عن نافع بلفظ " حين نزل الحجاج بابن الزبير " وكان لمسلم من رواية يحيى القطان . قوله : ( كما صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم ) في رواية للبخاري " كما صنعنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " قوله : ( أشهدكم أني قد أوجبت عمرة ) يعني من أجل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان أهل بعمرة عام الحديبية . قال النووي : معناه إن صددت عن البيت أو حصرت تحللت من العمرة كما تحلل النبي - صلى الله عليه وسلم - من العمرة .

                                                                                                                                            وقال عياض : يحتمل أن المراد أنه أوجب عمرة كما أوجب النبي - صلى الله عليه وسلم - ويحتمل أنه أراد الأمرين من الإيجاب والإحلال . قال الحافظ : وهذا هو الأظهر .

                                                                                                                                            قوله : ( ما شأن الحج والعمرة إلا واحد ) يعني فيما يتعلق بالإحصار والإحلال . قوله : ( ولم يزد على ذلك ) هذا يقتضي أنه اكتفى بطواف القدوم عن طواف الإفاضة وهو مشكل . وسيأتي إن شاء الله تعالى الكلام عليه .

                                                                                                                                            وفي الحديث فوائد منها ما بوب له المصنف من جواز الحج على العمرة ، وإليه ذهب الجمهور لكن بشرط أن يكون الإدخال قبل الشروع في طواف العمرة ، وقيل : إن كان قبل مضي أربعة أشواط صح وهو قول الحنفية ، وقيل : ولو بعد تمام الطواف وهو قول المالكية . ونقل ابن عبد البر أن أبا ثور شذ فمنع إدخال الحج على العمرة قياسا على منع إدخال العمرة على الحج . ومنها أن القارن يقتصر على طواف واحد

                                                                                                                                            ومنها أن القارن يهدي ، وشذ ابن حزم فقال : لا هدي على القارن . ومنها جواز الخروج إلى النسك في الطريق المظنون خوفه إذا رجا السلامة ، قاله ابن عبد البر . ومنها أن الصحابة كانوا يستعملون القياس ويحتجون به .

                                                                                                                                            1855 - ( وعن جابر أنه قال : { أقبلنا مهلين مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بحج مفرد ، [ ص: 376 ] وأقبلت عائشة بعمرة حتى إذا كنا بسرف عركت حتى إذا قدمنا مكة طفنا بالكعبة والصفا والمروة ، فأمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحل منا من لم يكن معه هدي ، قال : فقلنا : حل ماذا ؟ قال الحل كله ، فواقعنا النساء ، وتطيبنا بالطيب ، ولبسنا ثيابنا ، وليس بيننا وبين عرفة إلا أربع ليال ، ثم أهللنا يوم التروية ، ثم دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على عائشة فوجدها تبكي ، فقال : ما شأنك ؟ قالت : شأني أني قد حضت ، وقد حل الناس ولم أحلل ولم أطف بالبيت والناس يذهبون إلى الحج الآن ، فقال : إن هذا أمر كتبه الله على بنات آدم فاغتسلي ، ثم أهلي بالحج ففعلت ووقفت المواقف حتى إذا طهرت طافت بالكعبة وبالصفا والمروة ثم قال : قد حللت من حجتك وعمرتك جميعا ، فقالت : يا رسول الله إني أجد في نفسي أني لم أطف بالبيت حين حججت ، قال : فاذهب بها يا عبد الرحمن فأعمرها من التنعيم ، وذلك ليلة الحصبة } . متفق عليه )

                                                                                                                                            قوله : ( بحج مفرد ) استدل به من قال : إن حجه صلى الله عليه وسلم كان مفردا وليس فيه ما يدل على ذلك ; لأن غاية ما فيه أنهم أفردوا الحج مع النبي صلى الله عليه وسلم وليس فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم أفرد الحج ، ولو سلم أنه يدل على ذلك فهو مؤول بما سلف ، قوله : ( عركت ) بفتح العين المهملة والراء : أي : حاضت ، يقال : عركت تعرك عروكا كقعدت تقعد قعودا .

                                                                                                                                            قوله : ( حل ماذا ) بكسر الحاء المهملة وتشديد اللام ، وحذف التنوين للإضافة ، وما استفهامية : أي الحل من أي شيء ذا ، وهذا السؤال من جهة من جوز أنه حل من بعض الأشياء دون بعض . قوله : ( الحل كله ) أي : الحل الذي لا يبقى معه شيء من ممنوعات الإحرام بعد التحلل المأمور به قوله : ( ثم أهللنا يوم التروية ) هو اليوم الثامن من ذي الحجة قوله : ( أمر كتبه الله على بنات آدم فاغتسلي ) . . . إلخ ، هذا الغسل قيل : هو الغسل للإحرام ، ويحتمل أن يكون الغسل من الحيض . قوله : ( حتى إذا طهرت ) بفتح الهاء وضمها والفتح أفصح .

                                                                                                                                            قوله : ( من حجتك وعمرتك ) هذا تصريح بأن عمرتها لم تبطل ولم تخرج منها ، وأن ما وقع في بعض الروايات من قوله : " ارفضي عمرتك " وفي بعضها " دعي عمرتك " متأول . قال النووي : إن قوله : " حتى إذا طهرت طافت بالكعبة والصفا والمروة ، ثم قال : قد حللت من حجتك وعمرتك " يستنبط منه ثلاث مسائل حسنة . إحداها : أن عائشة كانت قارنة ولم تبطل عمرتها ، وأن الرفض المذكور متأول . الثانية : أن القارن يكفيه طواف واحد ، وهو مذهب الشافعي والجمهور . وقال أبو حنيفة وطائفة : يلزمه طوافان وسعيان . الثالثة : أن السعي بين الصفا والمروة يشترط وقوعه بعد طواف صحيح . وموضع الدلالة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمرها أن تصنع ما يصنع الحاج غير [ ص: 377 ] الطواف بالبيت ، ولم تسع كما لم تطف ; فلو لم يكن السعي متوقفا على تقدم الطواف عليه لما أخرته . قال : واعلم أن طهر عائشة هذا المذكور كان يوم السبت وهو يوم النحر في حجة الوداع ، وكان ابتداء حيضها هذا يوم السبت أيضا لثلاث خلون من ذي الحجة سنة إحدى عشرة ، ذكر أبو محمد بن حزم في كتابه حجة الوداع قوله : ( فاذهب بها يا عبد الرحمن . . . إلخ ) قد تقدم شرح هذا في أول كتاب الحج ، والحديث ساقه المصنف رحمه اللهللاستدلال به على جواز إدخال الحج على العمرة ، وقد تقدم ما فيه من الخلاف والاشتراط ، وللحديث فوائد يأتي ذكرها في مواضعها .




                                                                                                                                            الخدمات العلمية