الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                        813 [ ص: 107 ] ( 33 ) باب ما جاء في بناء الكعبة

                                                                                                                        776 - مالك عن ابن شهاب ، عن سالم بن عبد الله ; أن عبد الله [ ص: 108 ] ابن محمد بن أبي بكر الصديق ، أخبر عبد الله بن عمر ، عن عائشة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " ألم تري أن قومك حين بنوا الكعبة ، اقتصروا عن قواعد إبراهيم ؟ " قالت فقلت : يا رسول الله . أفلا تردها على قواعد إبراهيم ؟ فقال رسول الله ، صلى الله عليه وسلم : " لولا حدثان قومك بالكفر لفعلت " قال : فقال عبد الله بن عمر : لئن كانت عائشة سمعت هذا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما أرى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ترك استلام الركنين ، اللذين يليان الحجر ، [ ص: 109 ] إلا أن البيت لم يتمم على قواعد إبراهيم .

                                                                                                                        777 - مالك ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، أن عائشة - أم المؤمنين - قالت : لا أبالي : أصليت في الحجر أم في البيت .

                                                                                                                        778 - مالك أنه سمع ابن شهاب يقول : سمعت بعض علمائنا يقول : ما حجر الحجر ، فطاف الناس من ورائه ، إلا إرادة أن يستوعب الناس الطواف بالبيت كله .

                                                                                                                        [ ص: 110 ]

                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                        [ ص: 110 ] 17005 - قال أبو عمر : أما حديث عائشة المسند في أول هذا الباب فيه وجوب معرفة بناء قريش للكعبة ، وأن بنيانهم لها لم يتم على قواعد إبراهيم .

                                                                                                                        17006 - والقواعد : أسس البيت . واحدتها قاعدة : عند أهل اللغة .

                                                                                                                        17007 - قالوا : والواحدة من النساء اللاتي قعدت عن الولادة قاعد - بغير هاء - والجمع فيهما جميعا قواعد .

                                                                                                                        17008 - قال الله ، عز وجل : وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت [ البقرة : 127 ] .

                                                                                                                        17009 - قال : والقواعد من النساء اللاتي لا يرجون نكاحا [ النور : 60 ] .

                                                                                                                        17010 - وقد ذكرنا بنيان إبراهيم وإسماعيل البيت ، ومن بناه أيضا قبلهما على حساب ما روي قبل ذلك .

                                                                                                                        17011 - فقد قيل : آدم أول من أمر ببنيانه .

                                                                                                                        17012 - وقيل : بل شيث بن آدم ، وقد ذكرنا هذا هناك .

                                                                                                                        [ ص: 111 ] [ ص: 112 ] 17013 - ونذكر هاهنا بنيان قريش له خاصة ، وهم القوم الذين ذكرهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقوله لعائشة : ألم تري أن قومك حين بنوا الكعبة اقتصروا عن قواعد إبراهيم .

                                                                                                                        17014 - وفي هذا الحديث أيضا حديث الرجل مع أهله في باب العلم وغيره من أيام الناس ، وغير ذلك من معاني الفقه .

                                                                                                                        17015 - وفيه : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يستلم الركنين اللذين يليان الحجر ، وذلك - والله أعلم - لأنهما كسائر حيطان البيت التي لا تستلم ، لأنهما ليسا بركنين على حقيقة بناء إبراهيم ، عليه السلام .

                                                                                                                        17016 - وأما بنيان قريش للبيت الحرام فلا خلاف في ذلك ، وقد اختلف [ ص: 113 ] في تاريخ بنائهم له : 17017 - فذكر موسى بن عقبة ، عن ابن شهاب ، قال : كان بين الفجار وبناء الكعبة خمس عشرة سنة .

                                                                                                                        17018 - وذكر ابن وهب ، عن ابن لهيعة ، عن ابن الأسود محمد بن عبد الرحمن ، قال : إن الله - عز وجل - بعث محمدا على رأس خمس عشرة سنة من بنيان الكعبة . 17019 - وقال محمد بن جبير بن مطعم : بني البيت بعد خمس وعشرين سنة بعد الفيل .

                                                                                                                        17020 - وقال ابن إسحاق : على رأس خمس وثلاثين سنة .

                                                                                                                        17021 - وقد ذكرنا الآثار عن هؤلاء كلهم في التمهيد .

                                                                                                                        17022 - وذكر عبد الرزاق عن ابن جريج ، عن مجاهد ، قال : كان البيت عريشا تقتحمه العنز حتى إذا كان قبل مبعث رسول الله بخمس عشرة سنة بنته قريش .

                                                                                                                        17023 - وعن معمر ، عن عبد الله بن عثمان بن خثيم عن أبي الطفيل ، قال : كانت الكعبة في الجاهلية مبنية بالرضم ليس فيها مدد ، وكانت قدر ما [ ص: 114 ] تقتحمها العناق ، وكانت ثيابها توضع عليها تسدل سدلا ، وكان الركن الأسود موضوعا على سورها باديا ، وكانت ذات ركنين هيئة هذه الحلقة ، فأقبلت سفينة من الروم تريد الحبشة ، حتى إذا كانوا قريبا من جدة انكسرت السفينة ، فخرجت قريش ليأخذوا خشبها ، فوجدوا روميا عندها ، فأخذوا الخشب وقدموا بالرومي ، فقالت قريش : نبني بهذا الخشب بيت ربنا ، فلما أرادوا هدمه إذا هم بحية على سور البيت مثل قطعة الجائز ، سوداء الظهر ، بيضاء البطن ، فجعلت كلما أتى أحد إلى البيت ليهدمه أو يأخذ من حجارته سعت إليه فاتحة فاها ، فاجتمعت قريش عند المقام ، فعجوا إلى الله تعالى ، فقالوا : ربنا لم ترع ، أردنا تشريف بيتك وتزينه ، فإن كنت ترضى بذلك ، وإلا فما بدا لك فافعل . فسمعوا خواتا في السماء - يعني صوتا ورجة - فإذا هم بطائر - أعظم من النسر أسود الظهر أبيض البطن والرجلين فغرز مخالبه في قفا الحية ، فانطلق بها تجر ذنبها أعظم من كذا وكذا حتى انطلق بها نحو أجياد فهدمتها قريش ، وجعلوا يبنونها بالحجارة حجارة الوادي ، تحملها قريش على رقابها ، فرفعوها في السماء عشرين ذراعا ، فبينا النبي - صلى الله عليه وسلم - يحمل حجارة من أجياد وعليه نمرة ضاقت عليه النمرة ، فذهب يضع النمرة على عاتقه فترى عورته من صغر النمرة ، فنودي : يا محمد ! خمر عورتك . فلم ير عريانا بعد ذلك .

                                                                                                                        [ ص: 115 ] وكان بين بنيان الكعبة وبين ما أنزل عليه خمس سنين ، وبين مخرجه من مكة وبنيانها خمس عشرة سنة .

                                                                                                                        فلما جيش الحصين بن نمير ، فذكر حريقها في زمن ابن الزبير ، فقال ابن الزبير : إن عائشة أخبرتني أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : لولا حداثة قومك بالكفر لهدمت الكعبة ، فإنهم تركوا منها سبعة أذرع في الحجر . ضاقت بهم النفقة والخشب "
                                                                                                                        .

                                                                                                                        قال ابن خثيم : فأخبرني ابن أبي مليكة ، عن عائشة ، أنها سمعت ذلك من رسول الله . قالت : وقال النبي ، عليه السلام : " وجعلت له بابين شرقيا وغربيا يزحفون من هذا ويخرجون من هذا " ; ففعل ذلك ابن الزبير .

                                                                                                                        وكانت قريش قد جعلت لها درجا يرقى عليها من يأتيها ، فجعلها ابن الزبير لاصقة بالأرض .

                                                                                                                        قال ابن خثيم : وأخبرني ابن سابط ، أن زيدا أخبره أنه لما بناها ابن الزبير كشفوا عن القواعد ، إذا الحجر مثل الخلقة ، والحجارة مشتبكة بعضها ببعض ، إذا حركت بالعتلة تحرك الذي بالناحية الأخرى .

                                                                                                                        قال ابن سابط : فأراني ذلك ليلا بعد العشاء في ليلة مقمرة ، فرأيتها أمثال الخلف متشبكة أطراف بعضها ببعض .

                                                                                                                        [ ص: 116 ] 17024 - قال معمر : وأخبرني الزهري ، قال : لما بلغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الحلم أجمرت امرأة الكعبة ، فطارت شرارة من مجمرها في ثياب الكعبة ، فاحترقت ، فتشاورت قريش في هدمها وهابوا هدمها ; فقال لهم الوليد بن المغيرة : ما تريدون بهذا الإصلاح أم الفساد ؟ فقالوا : الإصلاح . قال : فإن الله تعالى لا يهلك المصلح . قالوا فمن الذي يعلوها ؟ قال الوليد بن المغيرة : أنا أعلوها فأهدمها ، فارتقى الوليد بن المغيرة على ظهر البيت ومعه الفأس ، فقال : اللهم إنا لا نريد إلا الإصلاح . ثم هدم . فلما رأته قريش قد هدم منها ولم يأتها ما خافوا من العذاب هدموا معه ، حتى إذا بنوها فبلغوا موضع الركن اختصمت قريش في الركن : أي القبائل تلي رفعه ؟ حتى : كاد يشجر بينهم ، فقالوا : تعالوا نحكم أول من يطلع علينا من هذه السكة ، فاصطلحوا على ذلك ، فاطلع عليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو غلام عليه وشاح نمرة ، فحكموه ، فأمر بالركن فوضع في ثوب ، ثم أمر سيد كل قبيلة فأعطاها ناحية من الثوب ، ثم ارتقى إليه الركن ، فكان هو يضعه ، صلى الله عليه وسلم .

                                                                                                                        17025 - وذكر ابن جريج ، عن مجاهد معنى حديث أبي الطفيل المتقدم ذكره ، ومعنى حديث الزهري هذا وحديثهما أكمل وأتم .

                                                                                                                        17026 - وفي هذا الباب حديث تفرد به إبراهيم بن طهمان عن مالك ، [ ص: 117 ] عن الزهري ، عن عروة ، عن عائشة ، قالت : قال رسول الله ، صلى الله عليه وسلم : " لقد هممت أن أهدم الكعبة ، وأبنيها على قواعد إبراهيم ، وأجعل لها بابين ، وأسويها بالأرض ، فإنهم إنما رفعوها أن لا يدخلها إلا من أحبوا " .

                                                                                                                        17027 - وروينا أن هارون الرشيد ذكر لمالك بن أنس أنه يريد هدم ما بنى الحجاج من الكعبة وأن يرده إلى بنيان ابن الزبير لما جاء في ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وامتثله ابن الزبير ; فقال له مالك : ناشدتك الله يا أمير المؤمنين : أن تجعل هذا البيت ملعبة للملوك لا يشاء أحد منهم إلا نقض البيت وبناه ; فتذهب هيبته من صدور الناس .

                                                                                                                        [ ص: 118 ] 17028 - قال أبو عمر : في حديث مالك ، عن ابن شهاب ، عن سالم في هذا الباب دليل على أن الحجر من البيت ، وإذا صح ذلك فواجب إدخاله في الطواف .

                                                                                                                        17029 - وأجمع العلماء أن كل من طاف بالبيت لزمه أن يدخل الحجر في طوافه .

                                                                                                                        17030 - واختلفوا فيمن لم يدخل الحجر في طوافه : فالذي عليه جمهور أهل العلم أن ذلك لا يجزئ ، وأن فاعل ذلك في حكم من لم يطف الطواف كاملا ، وأن من لم يطف الطواف الواجب كاملا يرجع من طوافه حتى يطوفه . وهو طواف الإفاضة .

                                                                                                                        17031 - قال ذلك الشافعي وأحمد ، وأبو ثور . وداود .

                                                                                                                        17032 - وهو قول ابن عباس ، وعطاء .

                                                                                                                        17033 - وكان ابن عباس يقول : الحجر من البيت ، وليطوفوا بالبيت العتيق [ الحج : 29 ] .

                                                                                                                        17034 - ويقول : طاف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من وراء الحجر .

                                                                                                                        17035 - قال مالك ، والشافعي ، ومن وافقهما : من لم يدخل الحجر [ ص: 119 ] في طوافه ولم يطف من ورائه ، شوطا أو شوطين أو أكثر ، ألغى ذلك وبنى على ما كان طاف طوافا كاملا قبل أن يسلك في الحجر ، ولا يعتد بما يسلك في الحجر .

                                                                                                                        7036 - وقال أبو حنيفة : من سلك في الحجر ولم يطف من ورائه - وذكر ذلك وهو بمكة - أعاد الطواف ، فإن كان شوطا قضاه ، وإن كان أكثر قضى ما بقي عليه من ذلك ، فإن خرج من مكة وانصرف إلى الكوفة ، فعليه دم وحجة تام .

                                                                                                                        17037 - وروي عن الحسن البصري نحو ذلك ، قال : من فعل ذلك فعليه الإعادة فإن حل أهراق دما .

                                                                                                                        [ ص: 120 ] 17038 - وأما حديثه عن هشام بن عروة ، عن أمه ، عن عائشة أنها قالت : ( ما أبالي أصليت في الحجر أم في البيت ، فليس فيه أمر من أن الحجر من البيت ، وأن من صلى فيه كمن صلى في البيت ، وسنذكر اختلاف العلماء في الصلاة في البيت في موضعه من هذا الكتاب إن شاء الله .

                                                                                                                        17039 - وقد اختلف العلماء في صلاة ركعتي الطواف في الحجر فأكثر العلماء على أن ذلك جائز لا بأس به .

                                                                                                                        17039 - وهو مذهب عطاء .

                                                                                                                        17040 - وبه قال الثوري ، وأبو حنيفة ، والشافعي .

                                                                                                                        17041 - وروي ذلك عن ابن عمر ، وابن الزبير ، وسعيد بن جبير ، وغيرهم .

                                                                                                                        17042 - وكل هؤلاء يرى الصلاة في البيت جائزة نافلة وفريضة ، وإن كان منهم من يستحب أن تصلى الفريضة خارج البيت والنافلة أيضا .

                                                                                                                        [ ص: 121 ] 17043 - وقال مالك : لا يصلي أحد صلاة واجبة في البيت ولا في الحجر .

                                                                                                                        17044 - قال : ومن ركع ركعتي الطواف الواجب في الحجر أعاد الطواف والسعي ضمن الصفا والمروة ، وإن لم يركعهما حتى بلغ بلده أهراق دما ولا إعادة عليه .

                                                                                                                        17045 - وأما قول ابن شهاب عن بعض علمائهم فإنما فيه الشهادة بأن الحجر من البيت ، وأنه من لم يطف به من ورائه لم يستكمل الطواف بالبيت . ولا خلاف عليه بين العلماء أنه من لم يدخل الحجر في طوافه لا يجزيه ذلك الطواف ما دام بمكة ، لأنه لم يستوعب الطواف بالبيت .

                                                                                                                        17546 - واختلفوا : هل ينوب عنه الدم لمن رجع إلى بلاده أم لا بد له من الرجوع إليه على ما ذكرناه ، والحمد لله .




                                                                                                                        الخدمات العلمية