الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                                                                                                          1398 - مسألة : والعبد في جواز صدقته ، وهبته ، وبيعه ، وشرائه كالحر ، والأمة كالحرة ما لم ينتزع سيدهما مالهما .

                                                                                                                                                                                          برهان ذلك - : ما ذكرناه قبل من أمر الله تعالى بالصدقة ، وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم بها . وقوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون وأنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت فيقول رب لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق وأكن من الصالحين }

                                                                                                                                                                                          وقوله تعالى : { وأحل الله البيع وحرم الربا }

                                                                                                                                                                                          ولا خلاف في أن العبد ، والأمة مخاطبان بالإسلام وشرائعه ، ملزمان بتخليص [ ص: 196 ] أنفسهما ، والتقرب إلى الله تعالى بصالح الأعمال ، موعدان بالجنة ، متوعدان بالنار كالأحرار ولا فرق ، فالتفريق بينهما خطأ إلا حيث جاء النص بالفرق بينهما ؟ قال علي : أما المالكيون ففحش اضطرابهم ههنا وذلك أنهم أباحوا التسري بإذن مولاه ، والله تعالى يقول : { والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون }

                                                                                                                                                                                          ولا خلاف بين أحد في أن العبد إن وطئ أمة سيده فإنه زان ؟ فيقال للمالكيين : لا تخلو هذه السرية التي أبحتم فرجها للعبد من أن تكون ملك يمينه ، فهذا قولنا ، فقد صح ملكه لماله ، وظهر تناقضهم أو تكون ليست ملك يمينه وإنما هي ملك يمين سيده ، فهو زان عاد ، وهذا ما لا مخرج منه ، وإذا ملكها فقد ملك - بلا شك - ثمنها الذي اشتراها به ، والذي يبيعها به .

                                                                                                                                                                                          وقال تعالى : { ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فمما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات والله أعلم بإيمانكم بعضكم من بعض فانكحوهن بإذن أهلهن وآتوهن أجورهن بالمعروف } فأمر تعالى بإعطاء الأمة صداقها ، وجعله ملكا لها ، وحقا لها ، والله تعالى لا يأمر بأن يعطي أحد مال غيره ، فصح أنهن مالكات كسائر النساء الحرائر ولا فرق

                                                                                                                                                                                          وأما الحنفيون ، والشافعيون ، فقالوا : لا يملك العبد أصلا ، ولم يبيحوا له التسري ، إلا أن الشافعيين تناقضوا أيضا ; لأنهم أوجبوا عليه نفقة زوجه وكسوتها ، فلولا أنه يملك لما جاز أن يلزم غرامة نفقة وكسوة من لا يجوز أن يملك ، ولا من لا يمكن أن يملك .

                                                                                                                                                                                          وأما الحنفيون فلم يوجبوا عليه نفقة أصلا ، لكن جعلوه بزواجه جانيا جناية توجب أن يقضى برقبته لزوجته فينفسخ النكاح إذا ملكته ؟ فهل سمع بأبرد من هذه الوساوس المضادة لأحكام القرآن ، والسنن ، والمعقول بلا دليل أصلا ؟ واحتج المانعون من ملك العبد بأن ذكروا قول الله تعالى : { ضرب الله مثلا عبدا مملوكا لا يقدر على شيء ومن رزقناه منا رزقا حسنا فهو ينفق منه } . [ ص: 197 ] قال أبو محمد : وقالوا : العبد لا يرث ولا يورث ، فصح أنه لا يملك ؟ وقالوا : العبد سلعة من السلع ، ما نعلم لهم شيئا غير هذا أصلا - كله لا حجة لهم فيه - : أما قول الله تعالى : { ضرب الله مثلا عبدا مملوكا لا يقدر على شيء } فلا حجة لهم فيه لوجوه - : أولها - أنه لم يقل الله تعالى : إن هذه صفة كل عبد مملوك ، وإنما ذكر من المماليك من هذه صفته ، وقد قال تعالى : { وضرب الله مثلا رجلين أحدهما أبكم لا يقدر على شيء وهو كل على مولاه أينما يوجهه لا يأت بخير } فهل يجب من هذا أن تكون ، هذه صفة كل أبكم ، أو أن يكون الأبكم لا يملك شيئا ؟ هذا ما لا يقولونه ، ولا فرق بين ورود الآيتين .

                                                                                                                                                                                          ونحن لا ننكر أن يكون في الأحرار ، وفي العبيد من لا يملك شيئا العدل ; ولا يقدر على شيء ، وليس كلهم كذلك ؟ والثاني - هو أن هذه الآية ليس فيها نص ، ولا دليل ، ولا إشارة على ذكر ملك ، ولا مال ، وإنما فيها : أنه لا يقدر على شيء ، فإنما فيها نفي القدرة والقوة فقط ، إما بضعف وإما بمرض أو نحو ذلك .

                                                                                                                                                                                          والثالث - أنهم إذا أسقطوا ملكه بهذه الآية فأحرى بهم أن يسقطوا عنه بها الصلاة والصوم ; لأنهما شيئان - وفيها أنه لا يقدر على شيء فوضح فساد تعلقهم بها جملة .

                                                                                                                                                                                          وأما قولهم : إن العبد لا يرث ولا يورث ، فنعم ; لأن السنة وردت بذلك ، وليس في هذا دليل على أنه لا يملك - والعمة لا ترث ، وليس ذلك دليلا على أنها لا تملك ويخص الله تعالى بالميراث من شاء كما قال تعالى : { يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين } .

                                                                                                                                                                                          وقال تعالى : { وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم } فدخل في هذا بنو البنات وخرجوا من الأولى ، لم يكن في ذلك دليل على أنهم ليسوا لنا أولادا . وأما قولهم : العبد سلعة ، فنعم ، فكان ماذا ؟ إن كانوا من أجل أنه سلعة جعلوه لا يملك ؟ ليسقطوا عنه الصلاة ، والطهارة ، والصوم ، والحدود ; لأن السلع لا يلزمها شيء من ذلك . [ ص: 198 ] قال أبو محمد : يكفي من هذا قول الله تعالى : { وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله } فقد وعدهم الله تعالى بالغنى ، وأخبر أن الفقر والغنى جائزان على العبيد والإماء . ولا يجوز أن يوصف بالفقر إلا من يملك فيعدم مرة ويستغني أخرى ، وأما من لا يملك أصلا فلا يجوز أن يوصف بفقر ولا بغنى ، كالإبل ، والبقر ، والسباع ، والجمادات ، وهذا واضح - والقرآن ، والسنن في أكثر عهودهما شاهد كل ذلك بصحة قولنا ههنا ، إذ لم يأت فرق في شيء من الأوامر بالفرق في الأموال بين حر وعبد - وبالله تعالى التوفيق .

                                                                                                                                                                                          وقد صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يجيب دعوة المملوك ، فلو لم يكن مالكا لماله لم يجب عليه السلام دعوته ، وقد قبل هدية سلمان وهو مملوك وأكلها عليه السلام - : كما أخبرنا أحمد بن محمد الطلمنكي نا ابن مفرج نا إبراهيم بن أحمد بن فراس نا أحمد بن محمد بن سالم النيسابوري نا إسحاق بن راهويه أنا يحيى بن آدم نا ابن إدريس - هو عبد الله - نا محمد بن إسحاق عن عاصم بن عمر بن قتادة عن محمود بن لبيد عن ابن عباس { حدثني سلمان الفارسي من فيه قال : كنت من أهل أصبهان واجتهدت في المجوسية - ثم ذكر الحديث بطوله - وأنه عامل ركبا من كلب على أن يحملوه إلى أرضهم ، قال : فظلموني فباعوني عبدا من رجل يهودي ، ثم باعه ذلك اليهودي من يهودي من بني قريظة ، ثم ذكر قدوم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة ، قال : فلما أمسيت جمعت ما كان عندي ثم خرجت حتى جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بقبا ومعه نفر من أصحابه ، فقلت : كان عندي شيء وضعته للصدقة ، رأيتكم أحق الناس به فجئتكم به ، فقال عليه السلام : كلوا ، وأمسك هو - ثم تحول عليه السلام إلى المدينة ، فجمعت شيئا ، ثم جئت فسلمت عليه ، فقلت : رأيتك لا تأكل الصدقة ، وكان عندي شيء أحب أن أكرمك به هدية ؟ فأكل هو وأصحابه ، ثم أسلمت ثم شغلني الرق حتى فاتني بدر ، ثم قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم كاتب } ، وذكر الحديث - : فقد أجاز عليه السلام صدقة العبد ، وهديته ، ولا حجة في أحد دونه - وبالله تعالى التوفيق . [ ص: 199 ] نعم ، وأجازها معه عليه السلام الحاضرون من أصحابه ولا مخالف لهم من الصحابة أصلا .

                                                                                                                                                                                          واحتج بعضهم بقول الله تعالى : { ضرب لكم مثلا من أنفسكم هل لكم مما ملكت أيمانكم من شركاء فيما رزقناكم فأنتم فيه سواء }

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد : ولا حجة لهم فيها ; لأننا لم نخالفهم في أن عبيدنا لا يملكون أموالنا ، ولا هم شركاء لنا فيها ، وإنما خالفناهم : هل يملكون أموالهم وكسبهم أم لا ؟ قال أبو محمد : وأما انتزاع السيد مال عبده فمباح ، قد جاءت السنة بذلك في { الغلام الذي حجم رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن خراجه ؟ فأخبر ، فأمر عليه السلام بأن يخفف عنه } .

                                                                                                                                                                                          فصح أن للسيد أخذ كسب عبده ، فإذا قال السيد : قد انتزعت كسبك ؟ فقد سقط ملك العبد عنه وصار للسيد - وبالله تعالى التوفيق .

                                                                                                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                                                                                                          الخدمات العلمية