الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                        816 [ ص: 122 ] ( 34 ) باب الرمل في الطواف

                                                                                                                        779 - مالك ، عن جعفر بن محمد ، عن أبيه ، عن جابر بن عبد الله ; أنه قال : رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رمل من الحجر الأسود حتى انتهى إليه ، ثلاثة أطواف .

                                                                                                                        [ ص: 123 ] 17047 - قال مالك : وذلك الأمر الذي لم يزل عليه أهل العلم ببلدنا .

                                                                                                                        780 - مالك ، عن نافع ; أن عبد الله بن عمر كان يرمل من الحجر الأسود ، إلى الحجر الأسود ، ثلاثة أطواف ، ويمشي أربعة أطواف .

                                                                                                                        781 - مالك ، عن هشام بن عروة ؟ أن أباه كان إذا طاف بالبيت ، يسعى الأشواط الثلاثة . يقول :

                                                                                                                        اللهم لا إله إلا أنتا وأنت تحيي بعدما أمتا

                                                                                                                        يخفض صوته بذلك

                                                                                                                        782 - مالك ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه أنه رأى عبد الله بن الزبير أحرم بعمرة من التنعيم .

                                                                                                                        قال ثم رأيته يسعى حول البيت الأشواط الثلاثة .

                                                                                                                        783 - مالك ، عن نافع ، أن عبد الله بن عمر كان إذا أحرم من مكة لم يطف بالبيت ، ولا بين الصفا والمروة ، حتى يرجع من منى ، وكان لا [ ص: 124 ] يرمل إذا طاف حول البيت ، إذا أحرم من مكة .

                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                        17048 - قال أبو عمر : لا أعلم خلافا أن الرمل - وهو الحركة والزيادة في المشي - لا يكون إلا في ثلاثة أطواف من السبعة في طواف دخول مكة ، خاصة للقادم الحاج أو المعتمر .

                                                                                                                        17049 - وفي هذا الحديث دليل على أن الطائف يبتدئ طوافه من الحجر ، وهذا ما لا خلاف فيه أيضا .

                                                                                                                        17050 - وروى ابن وهب عن يونس ، عن ابن شهاب ، عن سالم ، عن أبيه ، قال : رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين يقدم مكة يستلم الركن أول ما يطوف .

                                                                                                                        17051 - قال أبو عمر : إذا بدأ من الحجر مضى على يمينه ، وجعل البيت عن يساره ، وذلك أن الداخل من باب بني شيبة أو غيره أول ما يبتدئ به أن يأتي الحجر . يقصده فيقبله إن استطاع أو يمسحه بيمينه ويقبلها بعد أن يضعها عليه ، فإن لم يقدر قام بحذائه ، فكبر ، ثم أخذ في طوافه ، ثم يمضي على يمينه كما وصفت لك على باب الكعبة إلى الركن الذي لا يستلم ، ثم الذي يليه مثله ، ثم الركن الثالث ، وهو اليماني الذي يستلم ، وهو يلي الأسود ، ثم إلى ركن الحجر الأسود .

                                                                                                                        17052 - هذا حكم كل طواف واجب وغير واجب ، وهذه طوفة واحدة ، يفعل ذلك ثلاثة أطواف ، يرمل فيها . ثم أربعة مثلها لا يرمل فيها إذا كان هذا كله في طواف الدخول .

                                                                                                                        [ ص: 125 ] 17053 - وهذا كله إجماع من العلماء أنه من فعل هكذا فقد فعل ما ينبغي .

                                                                                                                        فإن لم يطف كما وصفنا وجعل البيت عن يمينه ومضى من الركن الأسود على يساره فقد نكس طوافه ولم يجزه ذلك الطواف عندنا .

                                                                                                                        17054 - واختلف الفقهاء فيمن طاف الطواف الواجب منكوسا .

                                                                                                                        17555 - فقال مالك ، [ والشافعي ] وأصحابهما : لا يجزئه الطواف منكوسا ، وعليه أن ينصرف من بلاده فيطوف ; لأنه كمن لم يطف .

                                                                                                                        17056 - وهو قول الحميدي ، وأبي ثور .

                                                                                                                        17057 - وقال أبو حنيفة ، وأصحابه : يعيد الطواف مادام بمكة ، إذا بلغ الكوفة أو أبعد كان عليه دم ويجزئه .

                                                                                                                        17058 - وكلهم يقول : إذا كان بمكة أعاد ، وكذلك القول عند مالك والشافعي فيمن نسي شوطا واحدا من الطواف أن لا يجزئه ، وعليه أن يرجع من بلاده على بقية إحرامه فيطوف .

                                                                                                                        17059 - وقال أبو حنيفة : إن بلغ بلده لم ينصرف وكان عليه دم .

                                                                                                                        17060 - قال أبو عمر : حجة من لم يجز الطواف منكوسا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استلم الركن في أول طوافه ، وأخذ عن يمينه وجعل البيت عن يساره ، وقال : [ ص: 126 ] خذوا عني مناسككم ; فمن خالف فعله فليس بطائف ، وفعله مردود عليه لقوله ، صلى الله عليه وسلم : من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد " .

                                                                                                                        17061 - وحجة أبي حنيفة أنه طواف قد حصل بالبيت سبعا ولم يأت به على سنته فيجبر بالدم إذا رجع إلى بلده أو أبعد ; لأن سنن الحج تجبر بالدم .

                                                                                                                        17062 - وأما الرمل فهو المشي خببا يشتد فيه دون الهرولة ، وهيئته أن يحرك الماشي منكبيه لشدة الحركة في مشيه ، هذا حكم الثلاثة الأشواط في الطواف بالبيت طواف دخول لا غيره ، وأما الأربعة الأشواط تتمة السبعة فحكمها المشي المعهود .

                                                                                                                        17063 - هذا أمر مجتمع عليه أن الرمل لا يكون إلا في ثلاثة أطواف من طواف الدخول للحاج والمعتمر دون طواف الإفاضة وغيره .

                                                                                                                        17064 - إلا أن العلماء اختلفوا في الرمل : هل هو سنة من سنن الحج لا يجوز تركها أم ليس بسنة واجبة ؟ لأنه : كان لعلة ذهبت وزالت ، فمن شاء فعليه اختيارا .

                                                                                                                        [ ص: 127 ] 17065 - فروي عن عمر بن الخطاب ، وعبد الله بن مسعود ، وعبد الله بن عمر .

                                                                                                                        17066 - وهو قول مالك ، والشافعي ، وأبي حنيفة وأصحابهم ، والثوري ، وأحمد بن حنبل وإسحاق ابن راهويه : أن الرمل سنة لكل قادم مكة حاجا أو معتمرا في الثلاثة الأطواف الأول .

                                                                                                                        17067 - وقال آخرون : ليس الرمل بسنة ، ومن شاء فعله ومن شاء لم يفعله .

                                                                                                                        17068 - روي ذلك عن جماعة من التابعين منهم : عطاء ، وطاوس ، [ ص: 128 ] ومجاهد ، والحسن ، وسالم ، والقاسم ، وسعيد بن جبير .

                                                                                                                        17069 - وهو الأشهر عن ابن عباس .

                                                                                                                        17070 - وقد روي عنه مثل قول عمر ومن تابعه .

                                                                                                                        17071 - وحجة من لم ير الرمل سنة حديث أبي الطفيل ، عن ابن عباس : [ ص: 129 ] [ ص: 130 ] 17072 - روى فطر ، عن أبي الطفيل ، قال : قلت لابن عباس : زعم قومك أن رسول الله رمل بالبيت ، وقال : ( ذلك سنة ) ، فقال : صدقوا وكذبوا . قلت : ما صدقوا ؟ وما كذبوا ؟ قال : صدقوا ; رمل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين طاف بالبيت . وكذبوا ؛ ليس ذلك بسنة . إن قريشا زمن الحديبية قالوا : إن به وبأصحابه هزلا ، وقعدوا على قيقعان ينظرون إلى النبي - صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، فبلغ ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال لأصحابه : " ارملوا أروهم أن بكم قوة ، فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يرمل من الحجر الأسود إلى اليماني ، فإذا توارى عنهم مشى .

                                                                                                                        [ ص: 131 ] 17073 - قال أبو عمر : قد روى ابن المبارك ، عن عبيد الله بن أبي زياد عن أبي الطفيل ، عن ابن عباس ، قال : رمل رسول الله من الحجر إلى الحجر .

                                                                                                                        [ ص: 132 ] 17074 - وهذا معناه في حجة الوداع أو في عمرته - صلى الله عليه وسلم - لا عام الحديبية .

                                                                                                                        [ ص: 133 ] 17075 - وروى حماد بن سلمة ، عن عبد الله بن عثمان بن خثيم ، عن أبي الطفيل ، عن ابن عباس : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اعتمر من الجعرانة ; فرمل بالبيت ثلاثة ، ومشى أربعة .

                                                                                                                        17076 - ففي هاتين الروايتين عن أبي الطفيل ، عن ابن عباس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رمل الأشواط الثلاثة كلها .

                                                                                                                        17077 - وهذا مع حديث جابر في حجة الوداع يرد قول من قال : يمشي بين الركنين اليماني والأسود .

                                                                                                                        17078 - وقد اختلف عن ابن عمر في ذلك .

                                                                                                                        17079 - وجمهور العلماء على أن الرمل من الحجر إلى الحجر على ما في حديث جابر في الأشواط الثلاثة .

                                                                                                                        17080 - وقد روى : عطاء وطاوس ، وعكرمة ، عن ابن عباس معنى [ ص: 134 ] حديث أبي الطفيل هذا ، وقد ذكرنا الأحاديث عنهم بذلك في ( التمهيد ) .

                                                                                                                        17081 - واحتجوا أيضا بحديث الحجاج بن أرطاة عن أبي جعفر وعكرمة ، عن ابن عباس ، قال : لما اعتمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بلغ أهل مكة أن بأصحابه هزلا ، فلما قدم مكة قال لأصحابه : " شدوا مآزركم وارملوا حتى يرى قومكم أن بكم قوة " ثم حج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلم يرمل .

                                                                                                                        17082 - قال أبو عمر : هذا ليس بشيء ; لأن الثابت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه رمل في حجته حجة الوداع من الحجر إلى الحجر ثلاثة أشواط ، ومشى أربعة . من حديث مالك وغيره عن جعفر بن محمد ، عن أبيه عن جابر .

                                                                                                                        17083 - وقد ذكرنا جماعة رووه بإسناده كذلك في ( التمهيد ) .

                                                                                                                        17084 - وهذا يدل على ضعف ما رواه الحجاج بن أرطاة من قوله : " ثم حج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلم يرمل .

                                                                                                                        [ ص: 135 ] [ ص: 136 ] [ ص: 137 ] 17085 - وروى هشام ، عن زيد بن أسلم ، عن أبيه ، عن عمر ، قال في الرمل : لا تدع شيئا صنعناه مع رسول الله ، صلى الله عليه وسلم .

                                                                                                                        17086 - وقد ثبت عن عمر وابن مسعود ، وابن عمر أنهم كانوا يرملون في الطواف ثلاثا - طواف القدوم - فصار سنة معمولا بها لا يضرها من جهلها وأنكرها .

                                                                                                                        17087 - وروى الشافعي ، قال : حدثني أنس بن عياض ، عن موسى بن عقبة ، عن نافع ، عن ابن عمر ، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه رمل ثلاثة أشواط ومشى أربعة ، يعني في حجته .

                                                                                                                        [ ص: 138 ] 17088 - قال أبو عمر : هذا خير من حديث العلاء بن المسيب ، عن الحكم ، عن مجاهد ، عن ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رمل في العمرة ومشى في الحج ، وأصح وأثبت إن شاء الله .

                                                                                                                        17089 - وروى مالك ، وأيوب ، وعبد الله بن عمر ، عن نافع ، عن ابن عمر بمعنى واحد أنه كان إذا قدم مكة رمل بالبيت وطاف بين الصفا والمروة إلى يوم النحر .

                                                                                                                        17090 - قال أبو عمر : على هذا جماعة العلماء بالحجاز والعراق من أئمة الفتوى وأتباعهم ، وهم الحجة على من شذ عنهم ، وقد مضى حديث جابر بما يغني عن الدلائل والتأويل .

                                                                                                                        17091 - واختلف قول مالك وأصحابه فيمن ترك الرمل في الطواف بالبيت طواف الدخول ، أو ترك الهرولة في السعي بين الصفا والمروة ، ثم ذكر ذلك وهو قريب : 17592 - فمرة قال مالك : يعيد .

                                                                                                                        17093 - ومرة قال : لا يعيد .

                                                                                                                        17094 - وبه قال ابن القاسم .

                                                                                                                        17095 - واختلف قوله أيضا ، هل عليه دم إن أبعده ؟ فقال مرة : لا شيء عليه .

                                                                                                                        17096 - ومرة قال : عليه دم .

                                                                                                                        [ ص: 139 ] 17097 - وقال ابن القاسم : وهو خفيف ولا أرى فيه شيئا .

                                                                                                                        17098 - وكذلك روى ابن وهب عن مالك في موطئه أنه استخفه ، قال ، ولم ير فيه شيئا .

                                                                                                                        17099 - وروى معن بن عيسى ، عن مالك : أن عليه دما .

                                                                                                                        17100 - وهو قول الحسن البصري ، وسفيان الثوري .

                                                                                                                        17101 - وقال ابن القاسم : رجع عن ذلك مالك .

                                                                                                                        17102 - وذكر ابن حبيب عن مطرف وابن الماجشون وابن القاسم أن عليه في قليل ذلك وكثيره دما .

                                                                                                                        17103 - واحتج بقول ابن عباس : من ترك من نسكه شيئا فعليه دم .

                                                                                                                        17104 - قال أبو عمر : الحجة لمن لم ير فيه شيئا واستخفه أنه شيء مختلف فيه لم تثبت به سنة وألزمه على البراءة حتى يصح ما يجب إثباته فيها .

                                                                                                                        17105 - وقد روي عن ابن عباس فيمن ترك الرمل : أنه لا شيء عليه .

                                                                                                                        17106 - وهو قول عطاء ، وابن جريج ، والشافعي ، وأبي حنيفة ، والأوزاعي ، وأحمد ، وإسحاق ، وأبي ثور .

                                                                                                                        17107 - وأجمعوا أنه ليس على النساء رمل في طوافهن بالبيت ، ولا هرولة في سعيهن بين الصفا والمروة .

                                                                                                                        [ ص: 140 ] 17108 - وكذلك أجمعوا على أن لا رمل على من أحرم بالحج من مكة من غير أهلها ، وهم المتمتعون ; لأنهم قد رملوا في حين دخولهم حين طافوا للقدوم .

                                                                                                                        17109 - واختلفوا في أهل مكة إذا حجوا ، هل عليهم رمل أم لا ؟ .

                                                                                                                        17110 - فكان ابن عمر لا يرى عليهم رملا إذا طافوا بالبيت .

                                                                                                                        17111 - وقال ابن وهب : كان مالك يستحب لمن حج من مكة أن يرمل حول البيت .

                                                                                                                        17112 - وقال الشافعي : كل طواف قبل عرفة كل طواف يوصل بينه وبين السعي فإنه يرمل فيه ، وكذلك العمرة .

                                                                                                                        17113 - قال أبو عمر : قد دخل فيما ذكرنا في هذا الباب جميع معاني الآثار المرسومة من جنسه .

                                                                                                                        17114 - وأما قول عروة في الطواف : [ ص: 141 ] [ ص: 142 ]

                                                                                                                        اللهم لا إله إلا أنتا وأنت تحيي بعد ما أمتا

                                                                                                                        فإن الموزون من الكلام وما يكره كغير الموزون ، وأما الشعر كلام ، فحسنه حسن وقبيحه قبيح .

                                                                                                                        17115 - وقد روي عنه أنه كان يقول في طوافه مثل هذا من موزون الشعر الذي يجري مجرى الذكر ، وكان شاعرا ( رحمه الله ) ، والشعر ديوان العرب وألسنتهم به رطبة .

                                                                                                                        [ ص: 143 ] 17116 - وقد كان الحسن يقول في مثل هذا :

                                                                                                                        يا فالق الإصباح أنت ربي وأنت مولاي وأنت حسبي
                                                                                                                        فأصلحن باليقين قلبي ونجني من كرب يوم الكرب

                                                                                                                        [ ص: 144 ] 17117 - وقد أوضحنا ما يجوز من الشعر ، ومن رفع العقيرة به ، وما يكره من الغناء وشبهه في كتاب الجامع من هذا الديوان عند ذكر رفع بلال عقيرته .

                                                                                                                        ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة بواد وحولي إذخر وجليد






                                                                                                                        الخدمات العلمية