الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( ( فصل ) )

في الكلام على الرزق ، وهو اسم لما يسوقه الله - تعالى - إلى الحيوان فيأكله ، قال في القاموس : الرزق بالكسر ما ينتفع به كل مرتزق ، والجمع أرزاق ، وبالفتح المصدر ، وقد أشار الناظم إلى ذكره بقوله :

( ( والرزق ما ينفع من حلال أو ضده فحل عن المحال ) )


( ( لأنه رازق كل الخلق     وليس مخلوق بغير رزق ) )


( ( ومن يمت بقتله من البشر     أو غيره فبالقضاء والقدر ) )


( ( ولم يفت من رزقه ولا الأجل     شيء فدع أهل الضلال والخطل ) )

( ( والرزق ما ينفع ) ) المرتزق ، أي ينتفع المرتزق بحصوله سواء كان [ ص: 344 ] ذلك المنتفع به ( ( من حلال ) ) وهو ما انحلت عنه التبعات ، وهو ضد الحرام ; ولهذا قال ( ( أو ضده ) ) أي ضد الحلال ، وهو الحرام ، وهو ما منع منه شرعا ، إما لصفة في ذاته ظاهرة كالسم والخمر ، أو خفية كالربا ومذكى المجوس ونحوه ; لأنه في حكم الميتة ، وإما لخلل في تحصيله كالربا والغصب ، ونحو ذلك ، فكل ذلك رزق ; لأن الله يسوقه للحيوان فيتناوله ويتغذى به ، وخالفت المعتزلة في ذلك فقالوا : الحرام ليس برزق ، وفسروه تارة بمملوك يأكله المالك ، وتارة بما لا يمنع عن الانتفاع به ، وذلك لا يكون إلا حلالا ، فيلزمهم على التفسير الأول أن ما يأكله الدواب ليس برزق مع ظاهر قوله - تعالى - : وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها فيكون مصادما للقرآن ; لأنه يقتضي أن تكون كل دابة مرزوقة ، ولا ينفعهم زعمهم أن تسمية ما يأكله الدواب رزقا مبني على تشبيهه بما هو مملوك للإنسان فيأكله ، فيكون لفظ الرزق مجازا عما تأكله الدواب ، فلا يلزم أن تكون كل دابة مرزوقة حقيقة ; لأنا نقول : هذا التأويل مخالف لظاهر القرآن ، وهو خلاف المتعارف في اللغة ، فلا يصح ارتكابه من غير ضرورة ، ثم إن تفسيرهم الرزق بذلك ليس بمطرد ، ولا منعكس لدخول ملك الله - تعالى - وخروج رزق الدواب ، والعبيد ، والإماء ، ويلزمهم أيضا على الوجهين أن من أكل الحرام طول عمره لم يرزقه الله - تعالى - أصلا ، وهو خلاف الإجماع الحاصل من الأمة قبل ظهور المعتزلة أن لا رازق إلا الله ، وإن استحق العبد الذم واللوم على أكل الحرام .

والإضافة إلى الله - تعالى - معتبرة في مفهوم الرزق ، وكل أحد مستوف رزق نفسه ، حلالا كان أو حراما ، ولا يتصور أن لا يأكل إنسان رزقه ، أو يأكل غير رزقه ; لأن ما قدر الله - تعالى - غذاء لشخص يجب أن يأكله ويمتنع أن يأكله غيره ; ولهذا قال : ( ( فحل ) ) أي زل وارجع ( ( عن المحال ) ) وجه كونه محالا أنه لا أحد يبقى بلا رزق ، ولا يمكن إلا أن يأكل رزقه ، فإذا تغذى طول عمره بالحرام ؛ يكون ما رزقه الله - تعالى - ، وهو محال ، وعلى كل حال : ما ذهب إليه المعتزلة ضرب من المحال ، ولهذا أوضح كون ذلك محالا بقوله : ( ( لأنه ) ) - سبحانه وتعالى - ( ( رزق كل الخلق ) ) كما في الأدلة القرآنية ، والأحاديث النبوية مما [ ص: 345 ] لا يحصي إلا بكلفة ؛ كقوله - تعالى - : وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ، وكلوا من رزقه ، إن الله هو الرزاق ( ( وليس ) ) يوجد ( ( مخلوق ) ) من سائر الحيوانات ، ويبقى ( ( بغير رزق ) ) فظهر فساد مذهب المعتزلة ، وحقيقة مذهب أهل الحق ، فإن الله - تعالى - قسم بين الخلق معايشهم في الحياة الدنيا ، ومعلوم أن الحرام معيشة لبعض الأنام ، والله الفعال لما يريد ( ( ومن يمت ) ) من سائر الحيوانات ( ( بقتله ) ) من سائر أنواع القتل ( ( من البشر ) ) محركة : الإنسان ذكرا كان أو أنثى ، واحدا أو جمعا ، وقد يثنى ويجمع أبشارا وقدمه للاعتناء به ، والاهتمام بأحواله ; ولأنه المقصود بالذكر ، وإنما قال : ( ( أو غيره ) ) من سائر الحيوانات لدفع توهم أن ما قتل منها ليس كذلك ( ( فـ ) ) موته ( ( بالقضاء ) ) أي بقضاء الله - تعالى - ، وهو لغة : الحكم ، وعرفا : إرادة الله الأزلية المتعلقة بالأشياء على ما هي عليه فيما لا يزال ( ( والقدر ) ) بتحريك الدال وتسكن ، مصدر قدرت الشيء بفتح الدال ، مخففة ؛ إذا أحطت بمقداره ، و " أل " فيه وفي القضاء عوض عن مضاف إليه ، أي بتقدير الله - تعالى - لذلك ، وهو عند الماتريدية : تحديده - تعالى - أزلا كل مخلوق بحده الذي يوجد به من حسن وقبح ، ونفع وضر ، وما يحويه من زمان ومكان ، وما يترتب عليه من طاعة وعصيان وثواب وعقاب وغفران .

وعند الأشاعرة : إيجاد الله - تعالى - الأشياء على قدر مخصوص ، وتقدير معين في ذواتها وأحوالها ، طبق ما سبق به العلم وجري به القلم . قال الخطابي ، رحمه الله - تعالى - : قد يحسب كثير من الناس أن معنى القدر من الله - تعالى - ، والقضاء معنى الإجبار والقهر للعبد على ما قضاه وقدره ، ويتوهم أن قوله - صلى الله عليه وسلم - : " فحج آدم موسى " من هذا الوجه ، وليس كذلك ، وإنما معناه الإخبار عن تقدم علم الله - تعالى - بما يكون من أفعال العباد واكتسابهم وصدورها عن تقدير منه - تعالى - ، وخلق لها خيرها وشرها ، قال : والقدر اسم لما صدر مقدرا عن فعل القادر كالهدم ، والنشر ، والقبض ، أسماء لما صدر عن فعل الهادم ، والناشر ، والقابض ، يقال : قدرت الشيء ، وقدرت خفيفة وثقيلة بمعنى واحد ، قال : والقضاء معناه في هذا - الخلق ، كقوله - تعالى - : [ ص: 346 ] فقضاهن سبع سماوات في يومين أي : خلقهن ، وإذا كان الأمر كذلك فقد بقي عليهم من وراء علم الله فيهم أفعالهم واكتسابهم ومباشرتهم تلك الأمور ، وملابستهم إياها عن قصد وتعمد وتقديم إرادة واختيار ، والحجة إنما تلزمهم بها ، واللائمة تلحقهم عليها ، قال : وجماع القول في هذا أنهما أمران لا ينفك أحدهما عن الآخر ; لأن أحدهما بمنزلة الأساس ، والآخر بمنزلة البناء ، فمن رام الفصل بينهما فقد رام هدم البناء ونقضه ، وإنما كان موضع الحجة لآدم على موسى - عليهما السلام - أن الله - سبحانه وتعالى - كان قد علم من آدم أنه يتناول الشجرة ، ويأكل منها ، فكيف يمكنه أن يرد علم الله فيه ، وأن يبطله بعد ذلك ، وبيان هذا في قوله - تعالى - : وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة فأخبر قبل كون آدم أنما خلقه للأرض ، وأنه لا يتركه في الجنة حتى ينقله عنها إليها ، وأنما كان تناوله سببا لوقوعه إلى الأرض التي خلق لها ليكون فيها خليفة واليا على من فيها ، فإنما أدلى آدم بالحجة على موسى لهذا المعنى ودفع لائمة موسى عن نفسه ; ولذلك قال : أتلومني على أمر قد قدره الله علي من قبل أن يخلقني ، قال : فقول موسى وإن كان في النفوس منه شبهة ، وفي ظاهره متعلق ؛ لاحتجاجه بالسبب الذي جعل أمارة لخروجه من الجنة ، فقول آدم في تعلقه بالسبب الذي هو بمنزلة الأصل أرجع وأقوى ، والفلج قد يقع مع المعارضة بالترجيح ، كما يقع بالبرهان الذي لا معارض له . انتهى .

والحديث الذي احتج فيه آدم على موسى رواه البخاري ومسلم وغيرهما من حديث أبي هريرة ، وروي أيضا بإسناد جيد من حديث ابن عمر - رضي الله عنهم - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " احتج آدم وموسى " وفي لفظ : إن موسى قال : يا رب أرنا آدم الذي أخرجنا من الجنة بخطيئته ، فقال موسى : يا آدم أنت أبو البشر خلقك الله بيده ، ونفخ فيك من روحه ، وأسجد لك ملائكته ، لماذا أخرجتنا ونفسك من الجنة ؟ فقال له آدم : أنت موسى الذي اصطفاك الله بكلامه ، وكتب لك التوراة بيده ، فبكم تجد فيها مكتوبا : وعصى آدم ربه فغوى قبل أن أخلق ؟ قال : بأربعين سنة ، وفي لفظ قال : أفتلومني على أمر قد قدر علي قبل أن أخلق بأربعين سنة ؟ قال : [ ص: 347 ] فحج آدم موسى " قال شيخ الإسلام ابن تيمية - روح الله روحه - : ظن طوائف في هذا الحديث أن آدم أحج بالقدر على الذنب ، وأنه حج موسى بذلك ، فطائفة من هؤلاء يدعون التحقيق والعرفان ، يحتجون بالقدر على الذنوب ، مستدلين بهذا الحديث ، وطائفة يقولون : الاحتجاج به سائغ في الآخرة لا في الدنيا ، وطائفة يقولون : هو حجة للخاصة المشاهدين للقدر دون العامة ، وطائفة كذبت به كالجبائي وغيره ، وطائفة تأولته تأويلات فاسدة ، مثل قول بعضهم : إنما حجه ; لأنه كان قد تاب ، وقول آخر : كان أباه ، والابن لا يلوم أباه ، وقول آخر : كان الذنب في شريعة ، واللوم في أخرى ، قال : وهذا كله تعريج عن مقصود الحديث .

وظاهر ما يؤخذ من كلام شيخ الإسلام ومن مفهوم الحديث - أن آدم إنما حج موسى - عليهما السلام - لكونه قد كان تاب من الذنب الصوري ، واستسلم للمصيبة التي لحقت الذرية بسبب أكله المقدر عليه ، فالحديث تضمن التسليم للقدر عند المصائب لا عند الذنوب ، والمعايب ، فيصبر على المصائب ، ويستغفر من الذنوب ، كما قال - تعالى - : فاصبر إن وعد الله حق واستغفر لذنبك وقال - تعالى - : ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله ومن يؤمن بالله يهد قلبه قالت طائفة من السلف : كان ابن مسعود - رضي الله عنه - يقول : هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله فيرضى ويسلم .

فالإيمان بالقدر والرضا بما قدره الله من المصائب ، والتسليم لذلك هو من حقيقة الإيمان ، وأما الذنوب فليس لأحد أن يحتج على فعلها بقدر الله - تعالى - ، بل عليه أن لا يفعلها ، وإذا فعلها فعليه أن يتوب منها كما فعل آدم - عليه السلام . وقال العلامة ابن مفلح في الآداب : قال شيخ الإسلام تقي الدين بن تيمية - قدس الله روحه - : موسى قال : لماذا أخرجتنا ونفسك من الجنة ، فلامه على المصيبة التي حصلت بسبب فعله ، لا لأجل كونها ذنبا ; ولهذا احتج عليه آدم - عليه السلام - بالقدر ، وأما كونه لأجل الذنب كما يظنه طوائف من الناس ، فليس مرادا بالحديث ، فإن آدم - عليه السلام - كان قد تاب من الذنب ، والتائب من الذنب كمن لا ذنب له ، ولا يجوز لوم التائب باتفاق الناس ، قال : ولأن آدم - عليه السلام - احتج بالقدر ، وليس لأحد أن يحتج بالقدر على الذنب باتفاق المسلمين وسائر العقلاء . وقال شيخ الإسلام أيضا [ ص: 348 ] في كتابه الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان : وهذا الحديث قد ضلت به طائفتان ، طائفة كذبت به لما ظنوا أنه يقتضي رفع الذم والعقاب عمن عصى الله - عز وجل - لأجل القدر ، وطائفة شر من هؤلاء جعلوه حجة لأهل الحقيقة الذين شهدوه أو الذين لا يرون أن لهم فعلا . وذكر نحو ما قدمنا من الطوائف ، ثم قال : وكل هذا باطل ، ولكن وجه الحديث أن موسى - عليه السلام - لم يلم أباه إلا لأجل المصيبة التي لحقته من أجل أكله من الشجرة ، فقال : لماذا أخرجتنا ونفسك من الجنة ؟ لم يلمه لمجرد كونه أذنب وتاب منه ، فإن موسى - عليه السلام - يعلم أن التائب من الذنب لا يلام ، ولو كان آدم - عليه السلام - يعتقد رفع الملام عنه لأجل القدر لم يقل ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين ، والمسلم مأمور عند المصائب أن يصبر ويسلم ، وعند الذنوب يستغفر ويتوب ، والله أعلم .

إذا علمت هذا مع ما قدمناه تحت قوله :

وكل ما يفعله العباد

البيتين ، والتنبيهات التي ذكرناها في أثناء ذلك ؛ علمت أن القدر عند السلف ما سبق به العلم وجرى به القلم ، مما هو كائن إلى الأبد ، وأنه - عز وجل - قدر مقادير الخلائق وما يكون من الأشياء قبل أن تكون في الأزل ، وعلم - سبحانه وتعالى - أنها ستقع في أوقات معلومة عنده - تعالى - ، وعلى صفات مخصوصة ، فهي تقع على حسب ما قدرها . قال شيخ الإسلام ابن تيمية - أغدق الله الرحمة على ضريحه - : وإن علم الله السابق محيط بالأشياء على ما هي عليه ، ولا محو فيه ولا تغيير ، ولا زيادة ولا نقص ، فإنه - سبحانه - يعلم ما كان وما يكون ، وما لا يكون لو كان كيف كان يكون كما تقدم ، قال : وأما ما جرى به القلم في اللوح المحفوظ ، فهل يقع فيه محو وإثبات ؟ على قولين للعلماء ، قال : وأما الصحف التي بيد الملائكة فيحصل فيها المحو والإثبات . انتهى . وتقدم . إذا علمت هذا فقوله : ومن يمت بقتله إلخ ، إن المراد أن المقتول ميت بأجله ، أي الوقت المقدر لموته ، لا كما يزعم بعض المعتزلة من أن الله - تعالى - قد قطع عليه الأجل ، والحق عند أهل الحق أن المقتول ميت في الوقت الذي قدره الله - تعالى - له وعلم أنه يموت فيه ، لا كما زعمت المعتزلة أنه قد قطع عليه الأجل ، يعني لم يوصله إليه ، وأنه لو لم يقتل لعاش إلى أمد هو أجله الذي علم الله - تعالى - موته فيه لولا [ ص: 349 ] القتل ، فهم يقطعون بامتداد العمر لولا القتل .

وحاصل النزاع أن المراد بالأجل المضاف زمان تبطل فيه الحياة قطعا من غير تقدم ولا تأخر ، فهل يتحقق ذلك في المقتول أم المعلوم في حقه أنه إن قتل مات ، وإن لم يقتل فيعيش إلى وقت هو أجل له ، فعندهم القاتل قد قطع عليه الأجل ، وأنه لو لم يقتل لعاش إلى أمد هو أجله الذي علم الله - تعالى - موته فيه لولا القتل ، وزعم أبو الهذيل منهم أنه لو لم يقتل لمات في ذلك الوقت البتة ، وقول غيره لو لم يقتل لجاز أن يموت في ذلك الوقت وأن لا يموت ، وهو مذهب أهل السنة ، يعني إلى أجله الذي إذا جاء لا يتأخر عنه ، ولا يتقدم كما قال - تعالى - : إذا جاء أجلهم فلا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون وادعى أبو الحسين ومن تابعه من المعتزلة بأن المسألة بديهية - يعني : موت المقتول من فعل القاتل وبقاؤه لولا القتل - ضرورية ، يدرك من غير استدلال ، بل بمجرد البديهة ، والجمهور منهم كانوا يقولون : إن المسألة استدلالية ، وقال الكعبي منهم : إن المقتول تبطل حياته بأجل القتل ، وليس المقتول بميت ، فيخص الموت بما لا يكون على وجه القتل ، على ما يشعر به قوله - تعالى - : أفإن مات الآية ، لكن المعنى مات حتف أنفه ، فمجرد بطلان الحياة موت ، والحاصل أن المقتول مات بأجله الذي أجله الله - تعالى - الذي لا يتقدم موته عليه لحظة ، ولا يتأخر عنه لحظة ، فإنه - عز وجل - حكم بآجال العباد على علم من غير تردد ، فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون .

وأما الأحاديث التي فيها أن بعض الطاعات تزيد في العمر ، مثل صلة الرحم ، ونحو ذلك مما جاء أنه يقصر العمر ، فهذا في الصحف التي يقع فيها المحو ، والإثبات ، وعلم الله - تعالى - لا يقع فيه تغيير ولا زيادة ولا نقصان كما مر آنفا ، والحق أن الأجل واحد ، لا كما زعم الكعبي أن للمقتول أجلين : القتل ، والموت ، وأنه لو لم يقتل لعاش إلى أجله الذي هو الموت ، ولا كما [ ص: 350 ] زعمت الفلاسفة أن للحيوان أجلا طبيعيا ، قيل : هو في الإنسان أن يبلغ مائة وعشرين سنة ، وموته عندهم بتحلل رطوبته ، وانطفاء حرارته الغريزيتين ، وأجلا آخر غير الطبيعي ، اخترامه بحسب الآفات ، والأمراض . ولرد هذه المذاهب الباطلة ، والعقائد الفاسدة العاطلة أشير بقوله : ( ( ولم يفت ) ) على المقتول ولا غيره ( ( من رزقه ) ) المقسوم له في علم الملك الحي القيوم شيء ، قل ولا جل ( ( ولا ) ) فاته أيضا من ( ( الأجل ) ) المحتوم ( ( شيء ) ) ولا لحظة واحدة ( ( فدع ) ) أي اترك وجانب ( ( أهل الضلال ) ) من طوائف الاعتزال ، فإنهم ضلوا الطريق القويم وأضلوا عن الصراط المستقيم ( ( و ) ) دع أهل ( ( الخطل ) ) وهو ، بفتح الخاء المعجمة ، والطاء المهملة - الخفة والسرعة والكلام الفاسد الكثير ، وهذا مناسب لحال الفلاسفة لسرعة كلامهم وتنميقه وخفته ، وتزويقه مع ما فيه من الاضطراب وكثرة الخطأ وقلة الصواب والتناقض والتحكم بالعقول ، والخوض فيما لا يعلم حقيقته إلا بالتلقي عن الرسول ، فكم لهم من هفوة باردة ، ومقالة فاسدة ، فدع نحاتة أفكارهم ونحالة آرائهم وابتكارهم ، واكرع من المنهل العذب الزلال الصافي ، وتضلع من الغذاء الهنيء المريء الشافي الذي جاء به الرسول عن جبريل ، عن رب العالمين ، لا ما قذفته الأفكار من الوساوس ووحي الشياطين .

التالي السابق


الخدمات العلمية