الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            [ ص: 382 ] باب ما جاء في فسخ الحج إلى العمرة

                                                                                                                                            1866 - ( عن جابر قال : { أهللنا بالحج مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلما قدمنا مكة أمرنا أن نحل ونجعلها عمرة ، فكبر ذلك علينا وضاقت به صدورنا ، فقال : يا أيها الناس أحلوا فلولا الهدي معي فعلت كما فعلتم ، قال : فأحللنا حتى وطئنا النساء وفعلنا كما يفعل الحلال حتى إذا كان يوم التروية وجعلنا مكة بظهر أهللنا بالحج } . متفق عليه .

                                                                                                                                            وفي رواية : { أهللنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - بالحج خالصا لا يخالطه شيء ، فقدمنا مكة لأربع ليال خلون من ذي الحجة ، فطفنا وسعينا ، ثم أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نحل وقال : لولا هدي لحللت ، ثم قام سراقة بن مالك فقال : يا رسول الله أرأيت متعتنا هذه لعامنا هذا أم للأبد ؟ فقال : بل هي للأبد } رواه البخاري وأبو داود ولمسلم معناه ) .

                                                                                                                                            1867 - ( وعن أبي سعيد قال : { خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نصرخ بالحج صراخا ; فلما قدمنا مكة أمرنا أن نجعلها عمرة إلا من ساق الهدي ; فلما كان يوم التروية ورحنا إلى منى أهللنا بالحج } رواه مسلم ) .

                                                                                                                                            1868 - ( وعن { أسماء بنت أبي بكر قالت : خرجنا محرمين ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : من كان معه هدي فليقم على إحرامه ، ومن لم يكن معه هدي فليحلل ، فلم يكن معي هدي فحللت ، وكان مع الزبير هدي فلم يحلل } . رواه مسلم وابن ماجه . ولمسلم في رواية : قدمنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مهلين بالحج )

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            . قوله : ( وجعلنا مكة بظهر ) أي جعلناها وراء أظهرنا ، وذلك عند إرادتهم الذهاب إلى منى قوله : ( لا يخالطه شيء ) يعني من العمرة ولا القران ولا غيرهما قوله : ( من ذي الحجة ) بكسر الحاء على الأفصح ( قوله أرأيت متعتنا هذه ) أي : أخبرني عن فسخنا الحج إلى عمرتنا هذه التي تمتعنا فيها بالجماع والطيب واللبس . قوله : ( لعامنا هذا ) أي : مخصوصة به لا تجوز في غيره أم للأبد : أي جميع الأعصار . وقد استدل بهذه الأحاديث وبما يأتي بعدها مما ذكره المصنف من قال : إنه يجوز فسخ الحج إلى العمرة لكل أحد . وبه قال أحمد وطائفة من أهل الظاهر . وقال مالك وأبو حنيفة والشافعي . قال النووي وجمهور العلماء من السلف والخلف : إن فسخ الحج إلى العمرة هو مختص بالصحابة في [ ص: 383 ] تلك السنة لا يجوز بعدها ، قالوا : وإنما أمروا به في تلك السنة ليخالفوا ما كانت عليه الجاهلية من تحريم العمرة في أشهر الحج

                                                                                                                                            واستدلوا بحديث أبي ذر وحديث الحارث بن بلال عن أبيه وسيأتيان ويأتي الجواب عنهما . قالوا : ومعنى قوله : " للأبد " جواز الاعتمار في أشهر الحج أو القران فهما جائزان إلى يوم القيامة . وأما فسخ الحج إلى العمرة فمختص بتلك السنة ، وقد عارض المجوزون للفسخ ما احتج به المانعون بأحاديث كثيرة عن أربعة عشر من الصحابة قد ذكر المصنف في هذا الباب منها أحاديث عشرة منهم وهم جابر وسراقة بن مالك وأبو سعيد وأسماء وعائشة وابن عباس وأنس وابن عمر والربيع بن سبرة والبراء وأربعة لم يذكر أحاديثهم وهم حفصة وعلي وفاطمة بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبو موسى . قال في الهدي : وروى ذلك عن هؤلاء الصحابة طوائف من كبار التابعين ، حتى صار منقولا عنهم نقلا يرفع الشك ويوجب اليقين ولا يمكن أحدا أن ينكره أو يقول لم يقع ، وهو مذهب أهل بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . ومذهب حبر الأمة وبحرها ابن عباس وأصحابه ومذهب أبي موسى الأشعري ومذهب إمام أهل السنة والحديث أحمد بن حنبل وأهل الحديث معه ومذهب عبد الله بن الحسن العنبري قاضي البصرة ومذهب أهل الظاهر انتهى . واعلم أن هذه الأحاديث قاضية بجواز الفسخ ، وقول أبي ذر لا يصلح للاحتجاج به على أنها مختصة بتلك السنة وبذلك الركب ، وغاية ما فيه أنه قول صاحبي فيما هو مسرح للاجتهاد فلا يكون حجة على أحد على فرض أنه لم يعارضه غيره فكيف إذا عارضه رأي غيره من الصحابة كابن عباس فإنه أخرج عنه مسلم أنه كان يقول : " لا يطوف بالبيت حاج إلا حل " وأخرج عنه عبد الرزاق أنه قال : " من جاء مهلا بالحج فإن الطواف بالبيت يصيره إلى عمرة شاء أم أبى ، فقيل له : إن الناس ينكرون ذلك عليك ، فقال : هي سنة نبيهم وإن زعموا ، وكأبي موسى فإنه كان يفتي بجواز الفسخ في خلافة عمر كما في صحيح البخاري ، على أن قول أبي ذر معارض بصريح السنة كما تقدم في جوابه صلى الله عليه وسلم لسراقة بقوله : للأبد لما سأله عن متعتهم تلك بخصوصها مشيرا إليها بقوله : " متعتنا هذه " فليس في المقام متمسك بيد المانعين يعتد به ويصلح لنصبه في مقابلة هذه السنة المتواترة . وأما حديث الحارث بن بلال عن أبيه فسيأتي أنه غير صالح للتمسك به على فرض انفراده ، فكيف إذا وقع معارضا لأحاديث أربعة عشر صحابيا كلها صحيحة ، وقد أبعد من قال : إنها منسوخة لأن دعوى النسخ تحتاج إلى نصوص صحيحة متأخرة عن هذه النصوص ، وأما مجرد الدعوى فأمر لا يعجز عنه أحد .

                                                                                                                                            وأما ما رواه البزار عن عمر أنه قال : { إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحل لنا المتعة ثم حرمها علينا } فقال ابن القيم : [ ص: 384 ] إن هذا الحديث لا سند له ولا متن . أما سنده فمما لا تقوم به حجة عند أهل الحديث . وأما متنه فإن المراد بالمتعة فيه متعة النساء . ثم استدل على أن المراد ذلك بإجماع الأمة على أن متعة الحج غير محرمة وبقول عمر : لو حججت لتمتعت كما ذكره الأثرم في سننه . وبقول عمر لما سئل " هل نهى عن متعة الحج ؟ فقال : لا ، أبعد كتاب الله ؟ " أخرجه عنه عبد الرزاق ، وبقوله - صلى الله عليه وسلم - : " بل للأبد " فإنه قطع لتوهم ورود النسخ عليها . واستدل على النسخ بما أخرجه أبو داود : { أن رجلا من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - أتى عمر بن الخطاب فشهد عنده أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مرضه الذي قبض فيه ينهى عن العمرة قبل الحج } وهو من رواية سعيد بن المسيب عن الرجل المذكور وهو لم يسمع من عمر وقال أبو سليمان الخطابي : في إسناد هذا الحديث مقال ، وقد اعتمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل موته "

                                                                                                                                            وجوز ذلك إجماع أهل العلم ، ولم يذكر فيه خلافا انتهى .

                                                                                                                                            إذا تقرر لك هذا علمت أن هذه السنة عامة لجميع الأمة ، وسيأتي في آخر هذا الباب بقية متمسكات الطائفتين ، وقد اختلف هل الفسخ على جهة الوجوب أو الجواز ؟ فمال بعض إلى أنه واجب .

                                                                                                                                            قال ابن القيم في الهدي بعد أن ذكر حديث البراء الآتي وغضبه صلى الله عليه وسلم لما لم يفعلوا ما أمرهم به من الفسخ ونحن نشهد الله علينا أنا لو أحرمنا بحج لرأينا فرضا علينا فسخه إلى عمرة تفاديا من غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم واتباعا لأمره . فوالله ما نسخ هذا في حياته ولا بعده ولا صح حرف واحد يعارضه ولا خص به أصحابه دون من بعدهم ، بل أجرى الله على لسان سراقة أن سأله هل ذلك مختص لهم ؟ فأجابه بأن ذاك كائن لأبد الأبد ، فما ندري ما يقدم على هذه الأحاديث وهذا الأمر المؤكد الذي غضب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على من خالفه انتهى . والظاهر أن الوجوب رأي ابن عباس لقوله فيما تقدم : إن الطواف بالبيت يصيره إلى عمرة شاء أم أبى



                                                                                                                                            1869 - ( وعن الأسود عن عائشة قالت : { خرجنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا نرى إلا أنه الحج : فلما قدمنا تطوفنا بالبيت ، وأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - من لم يكن ساق الهدي أن يحل فحل من لم يكن ساق ونساؤه لم يسقن فأحللن قالت عائشة : فحضت فلم أطف بالبيت ، وذكرت قصتها } . متفق عليه ) .

                                                                                                                                            1870 - ( وعن ابن عباس قال : { كانوا يرون العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور في الأرض ويجعلون المحرم صفر ، ويقولون : إذا برا الدبر ، وعفا الأثر وانسلخ صفر ، [ ص: 385 ] حلت العمرة لمن اعتمر ، فقدم النبي صلى الله عليه وسلم - وأصحابه صبيحة رابعة مهلين بالحج فأمرهم أن يجعلوها عمرة ، فتعاظم ذلك عندهم فقالوا : يا رسول الله أي الحل ؟ قال : حل كله } متفق عليه ) .

                                                                                                                                            1871 - ( وعنه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : { هذه عمرة استمتعنا بها ، فمن لم يكن عنده هدي فليحلل الحل كله ، فإن العمرة قد دخلت في الحج إلى يوم القيامة } رواه أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي ) .

                                                                                                                                            1872 - ( وعنه أيضا : أنه سئل عن متعة الحج ، فقال : { أهل المهاجرون والأنصار وأزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع وأهللنا ; فلما قدمنا مكة قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : اجعلوا إهلالكم بالحج عمرة إلا من قلد الهدي ، فطفنا بالبيت وبالصفا والمروة ، وأتينا النساء ولبسنا الثياب ، وقال : من قلد الهدي فإنه لا يحل له حتى يبلغ الهدي محله ، ثم أمرنا عشية التروية أن نهل بالحج وإذا فرغنا من المناسك جئنا طفنا بالبيت وبالصفا والمروة فقد تم حجنا وعلينا الهدي كما قال تعالى : { فما استيسر من الهدي ، فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم } إلى أمصاركم } . رواه البخاري ) .

                                                                                                                                            قوله : ( ولا نرى إلا أنه الحج ) في لفظ لمسلم " ولا نذكر إلا الحج " وظاهر هذا أن عائشة مع غيرها من الصحابة كانوا محرمين بالحج ، وقد تقدم قولها : " فمنا من أهل بعمرة ومنا من أهل بالحج والعمرة ومنا من أهل بالحج " فيحتمل أنها ذكرت ما كانوا يعتادونه من ترك الاعتمار في أشهر الحج ، فخرجوا لا يعرفون إلا الحج ، ثم بين لهم النبي - صلى الله عليه وسلم - وجوه الإحرام ، وجوز لهم الاعتمار في أشهر الحج . قوله : ( ونساؤه لم يسقن ) أي : الهدي . قوله : ( وذكرت قصتها ) وهي كما في البخاري وغيره { فلما كانت ليلة الحصبة قلت : يا رسول الله يرجع الناس بحجة وعمرة وأرجع أنا بحجة ؟ قال : وما طفت ليالي قدمنا مكة ؟ قلت : لا ، قال : فاذهبي مع أخيك إلى التنعيم فأهلي بعمرة ثم موعدك كذا وكذا ، فقالت صفية : ما أراني إلا حابستهم ، قال : عقرى حلقى ، أو ما طفت يوم النحر ؟ قالت : قلت : بلى ، قال : لا بأس انفري ، قالت عائشة : فلقيني النبي صلى الله عليه وسلم [ ص: 386 ] وهو مصعد من مكة وأنا منهبطة عليها أو أنا مصعدة وهو منهبط منها } .

                                                                                                                                            قوله : ( من أفجر الفجور ) هذا من أباطيلهم المستندة إلى غير أصل كسائر أخواتها . قوله : ( ويجعلون المحرم صفر ) قال في الفتح : كذا هو في جميع الأصول من الصحيحين . قال النووي : كان ينبغي أن يكتب بالألف ولكن على تقدير حذفها لا بد من قراءته منصوبا لأنه مصروف بلا خلاف ، يعني والمشهور في اللغة الربيعية كتابة المنصوب بغير الألف فلا يلزم من كتابته بغير ألف أن لا يصرف فيقرأ بالألف ، وسبقه عياض إلى نفي الخلاف فيه ، ولكن في المحكم كان أبو عبيدة لا يصرفه ، فقيل : لا يمنع الصرف حتى يجتمع علتان فما هما ؟ قال : المعرفة والساعة ، وفسره المظفري بأن مراده بالساعة الزمان ، والأزمنة ساعات ، والساعات مؤنثة انتهى . وإنما جعلوا المحرم صفرا لما كانوا عليه من النسيء في الجاهلية ، فكانوا يسمون المحرم صفرا ويحلونه ، ويؤخرون تحريم المحرم لئلا يتوالى عليهم ثلاثة أشهر محرمة فيضيق عليهم فيها ما يعتادون من المقاتلة والغارة والنهب ، فضللهم الله عز وجل في ذلك فقال : { إنما النسيء زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا } قوله : ( إذا برأ الدبر ) بفتح الدال المهملة والموحدة : أي ما كان يحصل بظهور الإبل من الحمل عليها ومشقة السفر فإنه كان يبرأ عند انصرافهم من الحج .

                                                                                                                                            قوله : ( وعفا الأثر ) أي اندرس أثر الإبل وغيرها في سيرها ويحتمل أن الدبر المذكور ، وهذه الألفاظ تقرأ ساكنة الراء لإرادة السجع . ووجه تعليق جواز الاعتمار بانسلاخ صفر مع كونه ليس من أشهر الحج أنها لما جعلوا المحرم صفرا وكانوا لا يستقرون ببلادهم في الغالب ويبرأ دبر إبلهم إلا عند انسلاخه ألحقوه بأشهر الحج على طريق التبعية ، وجعلوا أول أشهر الاعتمار شهر المحرم الذي هو في الأصل صفر ، والعمرة عندهم في غير أشهر الحج . قوله : ( قال حل كله ) أي الحل الذي يجوز معه كل محظورات الإحرام حتى الوطء للنساء . قوله : ( هذه عمرة استمتعنا بها ) هذا من متمسكات من قال : إن حجه صلى الله عليه وسلم كان تمتعا وتأوله من ذهب إلى خلافه بأنه أراد به من تمتع من أصحابه كما يقول الرجل الرئيس في قومه : فعلنا كذا وهو لم يباشر ذلك ، وقد تقدم الكلام على حجه - صلى الله عليه وسلم - قوله : ( فإن العمرة قد دخلت في الحج إلى يوم القيامة ) قيل : معناه سقط فعلها بالدخول في الحج ، وهو على قول من لا يرى العمرة واجبة . وأما من يرى أنها واجبة فقال النووي : قال أصحابنا وغيرهم : فيه تفسيران : أحدهما معناه دخلت أفعال العمرة في أفعال الحج إذا جمع بينهما بالقران . والثاني : معناه لا بأس بالعمرة في أشهر الحج

                                                                                                                                            قال الترمذي : هكذا قال الشافعي وأحمد وإسحاق ، وهذه الأحاديث من أدلة القائلين بالفسخ ، وقد تقدم البحث في ذلك . [ ص: 387 ]

                                                                                                                                            1873 - ( وعن أنس : { أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بات بذي الحليفة حتى أصبح ، ثم أهل بحج وعمرة وأهل الناس بهما ; فلما قدمنا أمر الناس فحلوا حتى كان يوم التروية أهلوا بالحج ، قال : ونحر النبي - صلى الله عليه وسلم - سبع بدنات بيده قياما وذبح بالمدية كبشين أملحين } . رواه أحمد والبخاري و أبو داود ) .

                                                                                                                                            1874 - ( وعن ابن عمر قال : { قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكة وأصحابه مهلين بالحج ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من شاء أن يجعلها عمرة إلا من كان معه الهدي ، قالوا : يا رسول الله أيروح أحدنا إلى منى وذكره يقطر منيا ؟ قال : نعم وسطعت المجامر } رواه أحمد ) . حديث ابن عمر هذا قال في مجمع الزوائد : رجال أحمد رجال الصحيح وهو في الصحيح باختصار ، وهو من أحاديث الفسخ التي قال ابن القيم كلها صحاح ، وهو أحد الأحاديث التي قال أحمد بن حنبل : إن عنده في الفسخ أحد عشر حديثا صحاحا . قوله : ( بات بذي الحليفة حتى أصبح ) فيه استحباب المبيت بميقات الإحرام . قوله : ( وأهل الناس بهما ) فيه استحباب . أن تكون تلبية الناس بعد تلبية كبير القوم ، ولفظ أبي داود : " ثم أهل الناس بهما " . قوله . : ( فحلوا ) أي أمر من فسخ الحج إلى العمرة ممن كان معه أن يحل من عمرته . قوله : ( يوم التروية ) هو اليوم الثامن من ذي الحجة كما تقدم . قوله : ( قياما ) فيه استحباب نحر الإبل قائمة . قوله : ( وذبح بالمدية كبشين ) فيه مشروعية الأضحية ، وسيأتي الكلام عليها إن شاء الله تعالى ويأتي إن شاء الله تعالى تفسير الأملح . قوله : ( وذكره يقطر منيا ) فيه إشارة إلى قرب العهد بوطء النساء .

                                                                                                                                            وفيه دليل على جواز استعمال الكلام في المبالغة .

                                                                                                                                            قوله : ( وسطعت المجامر ) في رواية لابن أبي شيبة عن أسماء بنت أبي بكر ما لفظه " جئنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حجاجا فجعلناها عمرة ، فحللنا الإحلال كله حتى سطعت المجامر بين الرجال . والنساء " والمراد أنهم تبخروا ، والبخور نوع من أنواع الطيب

                                                                                                                                            1875 - ( وعن الربيع بن سبرة عن أبيه قال : { خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى إذا كان بعسفان قال له سراقة بن مالك المدلجي : يا رسول الله اقض لنا قضاء قوم [ ص: 388 ] كأنما ولدوا اليوم ، فقال : إن الله عز وجل قد أدخل عليكم في حجكم عمرة ، فإذا قدمتم فمن تطوف بالبيت وبين الصفا والمروة فقد حل إلا من كان معه هدي } رواه أبو داود ) .

                                                                                                                                            1876 - ( وعن البراء بن عازب قال : { خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه ، قال : فأحرمنا بالحج ، فلما قدمنا مكة قال اجعلوا حجكم عمرة قال : فقال الناس : يا رسول الله قد أحرمنا بالحج كيف نجعلها عمرة ؟ قال : انظروا ما آمركم به فافعلوا فردوا عليه القول فغضب ثم انطلق حتى دخل على عائشة وهو غضبان فرأت الغضب في وجهه فقالت : من أغضبك أغضبه الله ؟ قال : وما لي لا أغضب وأنا آمر بالأمر فلا أتبع } ؟ رواه أحمد وابن ماجه ) الحديث الأول سكت عنه أبو داود ورجاله رجال الصحيح والمنذري . والحديث الثاني أخرجه أيضا أبو يعلى ورجاله رجال الصحيح ، كما قال في مجمع الزوائد ، وهو من الأحاديث في الفسخ التي صححها أحمد وابن القيم . قوله :

                                                                                                                                            ( بعسفان ) قرية بين مكة والمدينة على نحو مرحلتين من مكة . قال في الموطأ : بين مكة وعسفان أربع برد . قوله : ( اقض لنا قضاء قوم كأنما ولدوا اليوم ) أي : أعلمنا علم قوم كأنما وجدوا الآن ، وفي رواية لأبي داود : " كأنما وفدوا اليوم أي كأنما وردوا عليك الآن " . قوله : ( إلا من كان معه هدي ) يعني فإنه لا يحل حتى يبلغ الهدي محله قوله : ( فغضب ) استدل به من قال بوجوب الفسخ لأن الأمر لو كان أمر ندب لكان المأمور مخيرا بين فعله وتركه ، ولما كان يغضب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند مخالفته لأنه لا يغضب إلا لانتهاك حرمة من حرمات الدين لا لمجرد مخالفة ما أرشد إليه على جهة الندب ، ولا سيما وقد قالوا له : " قد أحرمنا بالحج كيف نجعلها عمرة ؟ فقال لهم : انظروا ما آمركم به فافعلوا " فإن ظاهر هذا أن ذلك أمر حتم ; لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لو كان أمره ذلك لبيان الأفضل أو لقصد الترخيص لهم بين لهم بعد هذه المراجعة أن ما أمرتكم به هو الأفضل ، أو قال لهم : إني أردت الترخيص لكم والتخفيف عليكم

                                                                                                                                            1877 - ( وعن ربيعة بن عبد الرحمن عن الحارث بن بلال عن أبيه قال : { قلت : [ ص: 389 ] يا رسول الله فسخ الحج لنا خاصة أم للناس عامة ؟ قال : بل لنا خاصة } رواه الخمسة إلا الترمذي وهو بلال بن الحارث المزني ) .

                                                                                                                                            1878 - ( وعن سليم بن الأسود أن أبا ذر كان يقول فيمن حج ثم فسخها بعمرة : لم يكن ذلك إلا للركب الذين كانوا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . رواه أبو داود . ولمسلم والنسائي وابن ماجه عن إبراهيم التيمي عن أبيه عن أبي ذر قال : كانت المتعة في الحج لأصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - خاصة .

                                                                                                                                            قال أحمد بن حنبل : حديث بلال بن الحارث عندي ليس يثبت ، ولا أقول به ، ولا يعرف هذا الرجل يعني الحارث بن بلال ، وقال : أرأيت لو عرف الحارث بن بلال إلا أن أحد عشر رجلا من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - يرون ما يرون من الفسخ ، أين يقع الحارث بن بلال منهم ؟ وقال في رواية أبي داود : ليس يصح حديث في أن الفسخ كان لهم خاصة ، وهذا أبو موسى الأشعري يفتي به في خلافة أبي بكر وشطرا من خلافة عمر ، قلت : ويشهد لما قاله قوله في حديث جابر " بل هي للأبد " وحديث أبي ذر موقوف ، وقد خالفه أبو موسى وابن عباس وغيرهما ) أما حديث بلال بن الحارث ففيه ما نقله المصنف عن أحمد . وقال المنذري : إن الحارث يشبه المجهول . وقال الحافظ : الحارث بن بلال من ثقات التابعين . وقال ابن القيم : نحن نشهد بالله أن حديث بلال بن الحارث هذا لا يصح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو غلط عليه ، قال : ثم كيف يكون هذا ثابتا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وابن عباس يفتي بخلافه ويناظر عليه طول عمره بمشهد من الخاص والعام وأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - متوافرون ولا يقول له رجل واحد منهم : هذا كان مختصا بنا ليس لغيرنا انتهى . وقد روى عثمان مثل قول أبي ذر في اختصاص ذلك بالصحابة ولكنهما جميعا مخالفان للمروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن ذلك للأبد بمحض الرأي ، قد حمل ما قالاه على محامل : أحدها أنهما أرادا اختصاص وجوب ذلك بالصحابة وهو قول ابن تيمية حفيد المصنف ، لا مجرد الجواز والاستحباب فهو للأمة إلى يوم القيامة . وثانيها أنه ليس لأحد بعد الصحابة أن يبتدئ حجا قارنا أو مفردا بلا هدي يحتاج معه إلى الفسخ ، ولكن فرض عليه أن يفعل ما أمر به النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو التمتع لمن لم يسق الهدي والقران لمن ساقه ، وليس لأحد بعدهم أن يحرم بحجة مفردة ثم يفسخها ويجعلها متعة ، وإنما ذلك خاص بالصحابة ، وهذان المحملان يعارضان ما حمل المانعون كلامهما عليه من أن المراد أن الجواز مختص بالصحابة إذا لم يكن منهما مرادا لهم وهما [ ص: 390 ] راجحان عليه ، وأقل الأحوال أن يكونا مساويين له فتسقط معارضة الأحاديث الصحيحة به

                                                                                                                                            وأما ما في صحيح مسلم عن أبي ذر من أن المتعة في الحج كانت لهم خاصة فيرده إجماع المسلمين على جوازها إلى يوم القيامة ، فإن أراد بذلك متعة الفسخ ففيه تلك الاحتمالات . ومن جملة ما احتج به المانعون من الفسخ أن مثل ما قاله عثمان وأبو ذر لا يقال بالرأي . ويجاب بأن هذا من مواطن الاجتهاد ، ومما للرأي فيه مدخل ، على أنه قد ثبت في الصحيحين عن عمران بن حصين أنه قال : { تمتعنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونزل القرآن فقال رجل برأيه ما شاء } فهذا تصريح من عمران أن المنع من التمتع بالعمرة إلى الحج من بعض الصحابة إنما هو محض من الرأي ، فكما أن المنع من التمتع على العموم من قبيل الرأي كذلك دعوى اختصاص التمتع الخاص أعني به الفسخ بجماعة مخصوصة . ومن جملة ما تمسك به المانعون من الفسخ حديث عائشة المتقدم حيث قالت : { خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع ، فمنا من أهل بعمرة ، ومنا من أهل بحج حتى قدمنا مكة ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : من أحرم بعمرة ولم يهد فليحل ، ومن أحرم بعمرة وأهدى فلا يحل حتى ينحر هديه ، ومن أهل بحج فليتم حجه } وهذا لفظ مسلم وظاهره أنه لم يأمر من حج مفردا بالفسخ بل أمره بإتمام حجه . وأجيب عن ذلك بأن هذا الحديث غلط فيه عبد الملك بن شعيب وأبوه شعيب أو جده الليث أو شيخه عقيل ، فإن الحديث رواه مالك ومعمر والناس عن الزهري عنها ، وبينوا { أن النبي - صلى الله عليه وسلم أمر من لم يكن معه هدي إذا طاف وسعى أن يحل }

                                                                                                                                            وقد خالف عبد الملك جماعة من الحفاظ فرووه على خلاف ما رواه . قال في الهدي بعد أن ساق الروايات المخالفة لرواية عبد الملك : فإن كان محفوظا ، يعني حديث عبد الملك فيتعين أن يكون قبل الأمر بالإحلال وجعله عمرة ، ويكون هذا أمرا زائدا قد طرأ على الأمر بالإتمام كما طرأ على التخيير بين الإفراد والتمتع والقران ويتعين هذا ولا بد ، وإذا كان هذا ناسخا للأمر بالفسخ ، والأمر بالفسخ ناسخا للإذن في الإفراد فهذا محال قطعا فإنه بعد أن أمرهم بالحل لم يأمرهم بنقضه والبقاء على الإحرام الأول وهذا باطل قطعا فيتعين إن كان محفوظا أن يكون قبل الأمر لهم بالفسخ ، لا يجوز غير هذا ألبتة انتهى ومن متمسكاتهم ما في لفظ لمسلم من حديث عائشة أنها قالت : { فأما من أهل بعمرة فحل ، وأما من أهل الحج أو جمع بين الحج والعمرة فلم يحل حتى كان يوم النحر } . وأجيب بأن هذا من حديث أبي الأسود عن عروة عنها وقد أنكره عليه الحفاظ . قال أحمد بن حنبل بعد أن ساقه : أيش في هذا الحديث من العجب ؟ هذا خطأ ، فقلت له : الزهري عن عروة عن عائشة بخلافه ، قال : نعم وهشام بن عروة ، وقد أنكره ابن حزم ، وأنكر حديث يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب عن عائشة بنحوه عند مسلم [ ص: 391 ] وقال : لا خفاء في نكرة حديث أبي الأسود ووهنه وبطلانه . والعجب كيف جاز على من رواه . قال : وأسلم الوجوه للحديثين المذكورين عن عائشة أن تخرج روايتهما على أن المراد بقولها : إن الذين أهلوا بحج أو بحج وعمرة لم يحلوا ، إنها عنت بذلك من كان معه الهدي لأن الزهري قد خالفهما وهو أحفظ منهما ، وكذلك خالفه غيره ممن له مزيد اختصاص بعائشة ثم إن حديثيهما موقوفان غير مسندين ; لأنهما إنما ذكر عنها فعل من فعل ما ذكرت دون أن تذكر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمرهم أن لا يحلوا ولا حجة في أحد دون النبي - صلى الله عليه وسلم - فلو صح ما ذكراه ، وقد صح أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - من لا هدي معه بالفسخ ، فتمادى المأمورون بذلك ولم يحلوا لكانوا عصاة لله ، وقد أعاذهم الله من ذلك وبرأهم منه ، قال : فثبت يقينا أن حديث أبي الأسود ويحيى إنما عنى فيه من كان معه هدي ، وهكذا جاءت الأحاديث الصحاح بأنه - صلى الله عليه وسلم - أمر من معه الهدي بأنه يجمع حجا مع العمرة ثم لا يحل حتى يحل منهما جميعا

                                                                                                                                            ومن جملة ما تمسك به المانعون من الفسخ أنه إذا اختلف الصحابة ومن بعدهم في جواز الفسخ فالاحتياط يقتضي المنع منه صيانة للعبادة . وأجيب بأن الاحتياط إنما يشرع إذا لم تتبين السنة ، فإذا ثبت فالاحتياط هو اتباعها وترك ما خالفها ، فإن الاحتياط نوعان : احتياط للخروج من خلاف العلماء ، واحتياط للخروج من خلاف السنة . ولا يخفى رجحان الثاني على الأول . قال في الهدي : وأيضا فإن الاحتياط ممتنع ، فإن للناس في الفسخ ثلاثة أقوال على ثلاثة أنواع : أحدها - أنه محرم . الثاني : أنه واجب وهو قول جماعة من السلف والخلف . الثالث : أنه مستحب فليس الاحتياط بالخروج من خلاف من حرمه أولى بالاحتياط من الخروج من خلاف من أوجبه ; وإذا تعذر الاحتياط بالخروج من الخلاف تعين الاحتياط بالخروج من خلاف السنة انتهى . ومن متمسكاتهم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمرهم بالفسخ ليبين لهم جواز العمرة في أشهر الحج لمخالفته الجاهلية .

                                                                                                                                            وأجيب بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد اعتمر قبل ذلك ثلاث عمر في أشهر الحج كما سلف ، وبأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد بين لهم جواز الاعتمار عند الميقات فقال : " من شاء أن يهل بعمرة فليفعل " الحديث في الصحيحين ، فقد علموا جوازها بهذا القول قبل الأمر بالفسخ ، ولو سلم أن الأمر بالفسخ لتلك العلة لكان أفضل لأجلها فيحصل المطلوب ; لأن ما فعله - صلى الله عليه وسلم - في المناسك لمخالفة أهل الشرك مشروع إلى يوم القيامة ، ولا سيما وقد قال صلى الله عليه وسلم : " إن عمرة الفسخ للأبد " كما تقدم . وقد أطال ابن القيم في الهدي الكلام على الفسخ ، ورجح وجوبه وبين بطلان ما احتج به المانعون منه ، فمن أحب الوقوف على جميع ذيول هذه المسألة فليراجعه ، وإذا كان الموقع في مثل هذا المضيق هو إفراد الحج فالحازم المتحري لدينه الواقف عند مشتبهات الشريعة ينبغي له أن يجعل حجه من الابتداء تمتعا أو قرانا فرارا مما هو مظنة [ ص: 392 ] البأس إلى ما لا بأس به ، فإن وقع في ذلك فالسنة أحق بالاتباع وإذا جاء نهر الله بطل نهر معقل .




                                                                                                                                            الخدمات العلمية