الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
القول في تأويل قوله ( يا أيها الناس قد جاءكم الرسول بالحق من ربكم فآمنوا خيرا لكم وإن تكفروا فإن لله ما في السماوات والأرض وكان الله عليما حكيما ( 170 ) )

قال أبو جعفر : يعني بقوله جل ثناؤه : "يا أيها الناس" ، مشركي العرب ، وسائر أصناف الكفر" قد جاءكم الرسول " ، يعني : محمدا صلى الله عليه وسلم ، قد جاءكم" بالحق من ربكم" ، يقول : بالإسلام الذي ارتضاه الله لعباده دينا ، يقول : "من ربكم" ، يعني : من عند ربكم " فآمنوا خيرا لكم " ، يقول : فصدقوه وصدقوا بما جاءكم به من عند ربكم من الدين ، فإن الإيمان بذلك خير لكم من الكفر به"وإن تكفروا" ، يقول : وإن تجحدوا رسالته وتكذبوا به وبما جاءكم به من عند ربكم ، فإن جحودكم ذلك وتكذيبكم به ، لن يضر غيركم ، وإنما مكروه ذلك عائد عليكم ، دون الذي أمركم بالذي بعث به إليكم رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم ، وذلك أن لله ما في السماوات والأرض ، ملكا وخلقا ، لا ينقص كفركم بما كفرتم به من أمره ، وعصيانكم إياه فيما عصيتموه فيه ، من ملكه وسلطانه شيئا "وكان الله عليما حكيما" ، يقول : "وكان الله عليما" ، بما [ ص: 413 ] أنتم صائرون إليه من طاعته فيما أمركم به وفيما نهاكم عنه ، ومعصيته في ذلك ، على علم منه بذلك منكم ، أمركم ونهاكم "حكيما" يعني : حكيما في أمره إياكم بما أمركم به ، وفي نهيه إياكم عما نهاكم عنه ، وفي غير ذلك من تدبيره فيكم وفي غيركم من خلقه .

واختلف أهل العربية في المعنى الذي من أجله نصب قوله : "خيرا لكم" .

فقال بعض نحويي الكوفة : نصب"خيرا" على الخروج مما قبله من الكلام ، لأن ما قبله من الكلام قد تم ، وذلك قوله : "فآمنوا" . وقال : قد سمعت العرب تفعل ذلك في كل خبر كان تاما ، ثم اتصل به كلام بعد تمامه ، على نحو اتصال"خير" بما قبله . فتقول : "لتقومن خيرا لك" و"لو فعلت ذلك خيرا لك" ، و"اتق الله خيرا لك" . قال : وأما إذا كان الكلام ناقصا ، فلا يكون إلا بالرفع ، كقولك : "إن تتق الله خير لك" ، و ( وأن تصبروا خير لكم ) [ سورة النساء : 25 ] .

وقال آخر منهم : جاء النصب في"خير" ، لأن أصل الكلام : فآمنوا هو خير لكم ، فلما سقط"هو" ، الذي [ هو كناية ] ومصدر ، اتصل الكلام بما قبله ، والذي قبله معرفة ، و"خير" نكرة ، فانتصب لاتصاله بالمعرفة لأن الإضمار من الفعل"قم فالقيام خير لك" ، و"لا تقم فترك القيام خير لك" . فلما سقط اتصل [ ص: 414 ] بالأول . وقال : ألا ترى أنك ترى الكناية عن الأمر تصلح قبل الخبر ، فتقول للرجل : "اتق الله هو خير لك" ، أي : الاتقاء خير لك . وقال : ليس نصبه على إضمار"يكن" ، لأن ذلك يأتي بقياس يبطل هذا . ألا ترى أنك تقول : "اتق الله تكن محسنا" ، ولا يجوز أن تقول : "اتق الله محسنا" ، وأنت تضمر"كان" ، ولا يصلح أن تقول : "انصرنا أخانا" ، وأنت تريد : "تكن أخانا" ؟ وزعم قائل هذا القول أنه لا يجيز ذلك إلا في"أفعل" خاصة ، فتقول : "افعل هذا خيرا لك" ، و"لا تفعل هذا خيرا لك" ، و"أفضل لك" . ، ولا تقول : "صلاحا لك" . وزعم أنه إنما قيل مع"أفعل" ، لأن"أفعل" يدل على أن هذا أصلح من ذلك .

وقال بعض نحويي البصرة : نصب"خيرا" ، لأنه حين قال لهم : "آمنوا" ، أمرهم بما هو خير لهم ، فكأنه قال : اعملوا خيرا لكم ، وكذلك : ( انتهوا خيرا لكم ) [ سورة النساء : 171 ] . قال : وهذا إنما يكون في الأمر والنهي خاصة ، ولا يكون في الخبر لا تقول : "أن أنتهي خيرا لي" ؟ ولكن يرفع على كلامين ، لأن الأمر والنهي يضمر فيهما فكأنك أخرجته من شيء إلى شيء ، لأنك حين قلت له : "انته" ، كأنك قلت له : "اخرج من ذا ، وادخل في آخر" ، واستشهد بقول الشاعر عمر بن أبي ربيعة : [ ص: 415 ]


فواعديه سرحتي مالك أو الربى بينهما أسهلا



كما تقول : "واعديه خيرا لك" . قال : وقد سمعت نصب هذا في الخبر ، تقول العرب : "آتي البيت خيرا لي ، وأتركه خيرا لي" ، وهو على ما فسرت لك في الأمر والنهي .

وقال آخر منهم : نصب"خيرا" ، بفعل مضمر ، واكتفى من ذلك المضمر بقوله : "لا تفعل هذا" أو"افعل الخير" ، وأجازه في غير"أفعل" ، فقال : "لا تفعل ذاك صلاحا لك" .

وقال آخر منهم : نصب"خيرا" على ضمير جواب"يكن خيرا لكم" . وقال : كذلك كل أمر ونهي .

التالي السابق


الخدمات العلمية