الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
100 حديث أول لهشام بن عروة

مالك عن هشام بن عروة بن الزبير ، عن أبيه ، عن عائشة أم المؤمنين أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا اغتسل من الجنابة بدأ فغسل يديه ، ثم توضأ كما يتوضأ للصلاة ، ثم يدخل أصابعه في الماء فيخلل بها أصول شعره ، ثم يصب على رأسه ثلاث غرفات بيديه ، ثم يفيض الماء على جلده كله .

[ ص: 93 ]

التالي السابق


[ ص: 93 ] في هذا الحديث كيفية غسل المغتسل من الجنابة ، وهو من أحسن حديث روي في ذلك ، وفيه فرض وسنة ، فأما السنة فالوضوء قبل الاغتسال من الجنابة ، ثبت ذلك عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه كذلك كان يفعل ، إلا أن المغتسل من الجنابة إذا لم يتوضأ وعم جميع جسده ورأسه ويديه ورجليه وسائر بدنه بالماء ، وأسبغ ذلك وأكمله بالغسل ومرور يديه ، فقد أدى ما عليه إذا قصد الغسل ونواه وتم غسله ; لأن الله - عز وجل - إنما فرض على الجنب الغسل دون الوضوء بقوله - عز وجل - : ( ولا جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا ) ، وقوله : ( وإن كنتم جنبا فاطهروا ) ، وهذا إجماع لا خلاف فيه بين العلماء ، إلا أنهم مجمعون أيضا على استحباب الوضوء قبل الغسل للجنب تأسيا برسول الله - صلى الله عليه وسلم ولأنه أعون على الغسل وأهذب فيه ، وأما بعد الغسل فلا .

وروى أيوب السختياني هذا الحديث عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة مثل رواية مالك ، إلا أن في روايته : فيخلل أصول شعره مرتين أو ثلاثا ، ثم يفرغ الماء على سائر جسده ، فإن بقي في الإناء شيء صبه عليه ، فقال أيوب : فقلت لهشام : فغسل رجليه ، فقال : وضوءه للصلاة وضوءه للصلاة ، يعني كفاه من ذلك ، وهذا الوضوء قبل الغسل لا بعده .

حدثنا سعيد بن نصر ، وعبد الوارث بن سفيان ، قالا : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا ابن وضاح ، قال : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال : حدثنا شريك ، عن أبي إسحاق عن الأسود ، عن عائشة قالت : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يتوضأ بعد الغسل من الجنابة .

[ ص: 94 ] وروى جميع بن عمير ، والقاسم بن محمد ، والأسود بن يزيد ، عن عائشة وصفها غسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الجنابة نحو حديث هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة بمعنى واحد متقارب ، وفي حديث جميع بن عمير كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ وضوءه للصلاة ، ثم يفيض على رأسه ثلاث مرار ونحن نفيض على رءوسنا خمسا من أجل الضفر .

وأما حديث ميمونة في صفة غسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فحدثنا عبد الله بن محمد ، حدثنا محمد بن بكر ، حدثنا أبو داود ، حدثنا مسدد قال : حدثنا عبد الله بن داود ، عن الأعمش ، عن سالم بن أبي الجعد ، عن كريب قال : حدثنا ابن عباس عن خالته ميمونة قالت : وضعت للنبي - صلى الله عليه وسلم - غسلا يغتسل به من الجنابة ، فأكفأ الإناء على يده اليسرى فغسلها مرتين أو ثلاثا ، ثم صب على فرجه فغسل فرجه بشماله ، ثم ضرب بيده الأرض فغسلها ، ثم مضمض واستنشق وغسل وجهه ويديه ، ثم صب على رأسه وجسده ، ثم تنحى ناحية فغسل رجليه فناولته المنديل ، فلم يأخذه وجعل ينفض الماء عن جسده قال الأعمش : فذكرت ذلك لإبراهيم ، فقال : كانوا لا يرون بالمنديل بأسا ، ولكن كانوا يكرهون العادة .

هذا الحديث لصحته يرد ما رواه شعبة مولى ابن عباس عن ابن عباس أنه كان إذا اغتسل من الجنابة غسل يديه سبعا وفرجه سبعا ، وشعبة هذا ليس بالقوي ، وقد روي عن ابن عمر قال : كانت الصلاة خمسين والغسل من الجنابة سبع مرات ، وغسل الثوب من البول سبع مرات ، فلم يزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسأل حتى جعلت الصلاة خمسا والغسل من الجنابة مرة ، وغسل [ ص: 95 ] الثوب من البول مرة . وإسناد هذا الحديث أيضا عن ابن عمر فيه ضعف ولين ، وإن كان أبو داود قد خرجه وخرج الذي قبله عن شعبة مولى ابن عباس .

وأما قوله في حديث عائشة : يتوضأ وضوءه للصلاة فيحتمل أنها أرادت بدأ بمواضع الوضوء ، والدليل على ذلك أنه ليس في شيء من الآثار الواردة عنه - صلى الله عليه وسلم - في غسل الجنابة أنه أعاد غسل تلك الأعضاء ، ولا إعادة المضمضة ولا الاستنشاق ، وأجمع العلماء على أن ذلك كله لا يعاد ، من أوجب منهم المضمضة والاستنشاق ومن لم يوجبها ، وقد مضى القول في ذلك في باب زيد بن أسلم والحمد لله .

واختلف قول مالك في تخليل الجنب لحيته في غسله من الجنابة ، فروى ابن القاسم عنه أنه قال : ليس ذلك عليه . وروى أشهب عنه أن عليه تخليل لحيته من الجنابة ، قال ابن عبد الحكم : وهو أحب إلينا ; لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يخلل شعره في غسل الجنابة . واختلاف الفقهاء في ذلك على هذين القولين ، وفي حديث عائشة هذا ما يشهد لصحة قول من رأى التخليل ; لأن قولها فيه فيدخل أصابعه في الماء فيخلل بها أصول شعره يقتضي عمومه شعر لحيته ورأسه ، وإن كان الأظهر فيه شعر رأسه ، والله أعلم .

واختلف العلماء في الجنب يغتسل في الماء ويعم جسده ورأسه كله بالغسل ، أو ينغمس في الماء ويعم بذلك جميع جسده دون أن يتدلك ، فالمشهور من مذهب مالك أنه لا يجزيه حتى يتدلك ; لأن الله أمر الجنب [ ص: 96 ] بالاغتسال كما أمر المتوضئ بغسل وجهه ويديه إلى المرفقين ، ولم يكن بد للمتوضئ من إمرار يديه مع الماء على وجهه وعلى يديه ، فكذلك جميع جسد الجنب ورأسه في حكم وجه المتوضئ وحكم يديه ، وهذا قول المزني واختياره ، وفي بعض روايات حديث ميمونة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غسل جسده من الجنابة .

وقال أبو الفرج : وهذا هو المعقول من لفظ الغسل ; لأن الاغتسال في اللغة هو الافتعال ومتى لم يمر يديه فلم يفعل غير صب الماء ، ولا يسميه أهل اللسان غاسلا ، بل يسمونه صابا للماء ومنغمسا فيه ، قال : وعلى نحو ذلك جاءت الآثار عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : تحت كل شعرة جنابة فبلوا واغسلوا الشعر وأنقوا البشرة قال : وإنقاؤه - والله أعلم - لا يكون إلا لمتبعه على حد ما ذكرناه . قال أبو الفرج : وتخريج هذا عندي - والله أعلم - أنه لما كان المعتاد من المنغمس في الماء وصابه عليه أنهما لا يكادان يسلمان من تنكب الماء - مواضع المبالغة المأمور بها ، وجب لذلك عليهما أن يمرا أيديهما ، قال : فأما إن طال مكث الإنسان في ماء ، أو والى بين صبه عليه من غير أن يمر يديه على بدنه ، فإنه ينوب له عن إمرار يديه ، قال : وإلى هذا المعنى - والله أعلم - ذهب مالك - رحمه الله - ، هذا كله قول أبي الفرج ، وقد عاد إلى جواز الغسل للمنغمس في الماء إذا أسبغ وعم ، وعلى ذلك جماعة الفقهاء وجمهور العلماء ، وقد روي ذلك عن مالك أيضا .

أخبرنا أحمد بن سعيد بن بشر قال : حدثنا مسلمة بن القاسم قال : حدثنا محمد بن زبان قال : حدثنا سلمة بن شبيب قال : حدثنا مروان بن محمد قال : سألت مالك بن أنس عن رجل اغتمس في ماء وهو جنب ولم يتوضأ وصلى ، [ ص: 97 ] قال : مضت صلاته . فهذه الرواية فيها أنه لم يتدلك ولا توضأ ، وقد أجزأه عند مالك ، لكن المعروف من مذهبه ما وصفنا من التدلك ، وقد روي عن الحسن وعطاء مثل ذلك ، وروي عنهما خلافه .

ذكر دحيم عن كثير بن هشام ، عن جعفر بن برقان ، عن ميمون بن مهران قال : إذا اغتسلت من الجنابة فادلك جلدك وكل شيء نالته يدك . قال : وحدثنا الوليد ، حدثنا الأوزاعي عن الزهري في الجنب ينغمس في نهر قال : يجزيه .

قال : وحدثنا أبو حفص أنه سأل الأوزاعي عن جنب طرح نفسه في نهر وهو جنب لم يزد على أن انغمس مكانه ، قال : يجزيه .

وعن الشعبي ومحمد بن علي وعطاء والحسن البصري قالوا : إذا اغتمس الجنب في نهر اغتماسة أجزأه .

وقال أبو حنيفة والشافعي وأصحابهما والثوري والأوزاعي : يجزي الجنب إذا انغمس في الماء ، وإن لم يتدلك ، وبه قال أحمد بن حنبل وأبو ثور وإسحاق وداود والطبري ومحمد بن عبد الحكم ، وهو قول الحسن البصري ، وإبراهيم النخعي ، وعامر الشعبي ، وحماد بن أبي سليمان ، وعطاء ، كل هؤلاء يقول : إذا انغمس في الماء وقد وجب عليه الوضوء ، فعم الماء أعضاء الوضوء ونوى بذلك الطهارة أجزأه ، وحجتهم أن كل من صب عليه الماء فقد اغتسل ، والعرب تقول : غسلتني السماء .

وقد حكت عائشة وميمونة صفة غسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يذكرا فيه التدلك ، ولو كان واجبا ما تركه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ; لأنه المبين عن الله مراده ، ولو فعله لنقل عنه كما نقل تخليل أصول الشعر بالماء وغرفه على رأسه وغير ذلك من صفة غسله ووضوئه ، صلى الله عليه وسلم .

ذكر عبد الرزاق عن معمر ، عن أبي إسحاق عن رجل يقال له عاصم ، أن رهطا أتوا عمر بن الخطاب فسألوه عن الغسل من الجنابة ، فقال : أما الغسل [ ص: 98 ] فتوضأ وضوءك للصلاة ، ثم اغسل رأسك ثلاث مرات وادلكه ، ثم أفض الماء على جلدك ، وأما غسل المرأة رأسها في الجنابة وصفة غسلها من ذلك فقد جاء عن عائشة ما ذكرنا من قولها : وأما نحن فنفيض على رءوسنا خمسا من أجل الضفر .

وقد أنكرت على عبد الله بن عمرو أمره النساء أن ينقضن رءوسهن عند الغسل وقالت : ما كنت أزيد على أن أفرغ على رأسي ثلاث غرفات مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، رواه أيوب ، عن أبي ( الزبير ) عن عبيد بن عمير ، عن عائشة أنه بلغها عن عبد الله بن عمرو .

وفي حديث أم سلمة أنها قالت : يا رسول الله ، أأنقض رأسي عند الغسل ؟ فقال : يكفيك أن تصبي على رأسك ثلاث مرات ، وقال سعيد بن المسيب : لكل صبة عصرة ، وقال مالك : اغتسال المرأة من الحيض كاغتسالها من الجنابة ولا تنقض رأسها .

قال أبو عمر : قد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يخلل أصول شعره في غسله ويتبع ذلك بصب الماء عليه ، فالواجب على كل ذي شعر من رجل أو امرأة أن يعتقد ذلك حتى يوصل الماء إلى البشرة ويجري عليها ; لقوله - صلى الله عليه وسلم - : تحت [ ص: 99 ] كل شعرة جنابة ، فاغسلوا الشعر ، ويروى : فارووا الشعر وأنقوا البشرة ، فإن وصل الماء إلى جلد الرأس فلا وجه لنقض الشعر حينئذ .

حدثنا عبد الله بن محمد ، حدثنا محمد بن بكر ، حدثنا أبو داود ، حدثنا موسى بن إسماعيل ، حدثنا حماد بن سلمة ، أخبرنا عطاء بن السائب ، عن زاذان ، عن علي ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : من ترك موضع شعرة من جنابة لم يغسلها ، فعل به كذا وكذا من النار قال علي : فمن ثم عاديت رأسي ثلاثا . وكان يجز شعره ، وكان ابن عيينة يقول : في تأويل الحديث " وأنقوا البشر " إنه أراد غسل الفرج وتضاعيفه ، وأنه كنى بالبشرة عن الفرج ، وما رأيت هذا التفسير لغير ابن عيينة .

وقال ابن وهب : ما رأيت أعلم بتفسير الأحاديث من ابن عيينة ، وحديث : فأبلوا‌ الشعر وأنقوا البشرة يدور على الحارث بن وجيه وهو ضعيف ، حدثناه عبد الله بن محمد قال : حدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا نصر بن علي قال : حدثنا الحارث بن وجيه قال : حدثنا مالك بن دينار ، عن محمد بن سيرين ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إن تحت كل شعرة جنابة ، فاغسلوا الشعر وأنقوا البشر .

قال أبو داود : هذا حديث ضعيف .

وحدثنا خلف بن قاسم قال : حدثنا أبو حذيفة أحمد بن محمد بن علي الدينوري قال : حدثنا أبو بكر عبد الله بن سليمان قال : حدثنا نصر بن علي [ ص: 100 ] الجهضمي قال : حدثنا الحارث بن وجيه ، عن مالك بن دينار ، عن محمد بن سيرين ، عن أبي هريرة قال : قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : تحت كل شعرة جنابة ، فأبلوا الشعر وأنقوا البشر .

وذكر عبد الرزاق ، أخبرنا معمر ، عن زيد بن أسلم قال : سمعت علي بن حسين يقول : ما مس الماء منك وأنت جنب فقد طهر ذلك المكان .

واختلف الفقهاء في الغسل للجنابة وفي الوضوء من غير نية ، فقال مالك وربيعة والشافعي وداود والطبري وأحمد وأبو ثور وإسحاق وأبو عبيد : لا يجزئ الطهارة للصلاة والغسل من الجنابة ولا التيمم إلا بنية . وحجتهم قوله - صلى الله عليه وسلم - : إنما الأعمال بالنيات ، وإنما لكل امرئ ما نوى ، وقال الله - عز وجل - : ( وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين ) ، والإخلاص : النية في التقرب إليه والقصد بأداء ما افترض على المؤمن .

وقال أبو حنيفة وأصحابه والثوري : تجزئ كل طهارة بماء بغير نية ، ولا يجزئ التيمم إلا بنية . وقال الأوزاعي والحسن بن حي : يجزئ الوضوء والتيمم بغير نية .

وروى أبو المغيرة عبد القدوس عن الأوزاعي - وسئل عن رجل يعلم أحدا التيمم ولا ينوي التيمم لنفسه - فحضرت الصلاة ، قال : يصلي بتيممه كما لو توضأ وهو لا ينوي الصلاة كان طاهرا .

وروى عبد الله بن المبارك والفريابي وعبد الرزاق عن الثوري قال : إذا علمت الرجل التيمم لم يجزك إلا أن يكون نويته ، وإن علمته الوضوء أجزأك وإن لم تنوه . وهو قول أبي حنيفة وأصحابه .

[ ص: 101 ] واختلف عن زفر في التيمم بغير نية ، فروي عنه مثل قول الحسن بن حي والأوزاعي ، وروي عنه مثل قول أبي حنيفة والثوري في الفرق بين الوضوء والتيمم ، وحجة من أسقط النية ولم يراعها في الوضوء بالماء أن الوضوء ليس فيه فرض ونافلة فيحتاج المتوضئ فيه إلى نية ، قالوا : وإنما يحتاج إلى النية فيما فيه من الأعمال فرض ونفل ليفرق بالنية بين ذلك ، وأما الوضوء فهو فرض للنافلة والفريضة ، ولا يصنعه أحد إلا لذلك فاستغنى عن النية ، قالوا : وأما التيمم فهو بدل من الوضوء فلا بد فيه من النية ، ومن جمع في ذلك بين التيمم والوضوء فحجته في ذلك واحدة ، ومن حجتهم أيضا الإجماع على إزالة النجاسات من الأبدان والثياب بغير نية وهي طهارة واجبة فرضا عندهم ، قالوا : فكذلك الوضوء .

قال أبو عمر : القول الصحيح قول من قال : " لا تجزئ طهارة إلا بنية وقصد " ; لأن المفروضات لا تؤدى إلا بقصد أدائها ، ولا يسمى الفاعل على الحقيقة فاعلا إلا بقصد منه إلى الفعل ، ومحال أن يتأدى عن المرء ما لم يقصد إلى أدائه وينوه بفعله وأي تقرب يكون من غير متقرب ولا قاصد والأمر في هذا واضح لمن ألهم رشده ولم تمل به عصبيته .

واختلف الفقهاء فيمن اغتسل للجمعة وهو جنب ولم يذكر جنابته ، فقالت طائفة : تجزيه ; لأنه اغتسل للصلاة واستباحتها ، وليس عليه مراعاة الحدث ونوعه ، كما ليس عليه أن يراعي حدث البول من الغائط من الريح وغير ذلك من الأحداث ، وإنما عليه أن يتوضأ للصلاة ، فكذلك الغسل للصلاة يوم الجمعة تجزيه من الجنابة . وإلى هذا ذهب المزني صاحب الشافعي ، فهو قول جماعة من أصحاب مالك منهم أشهب وابن وهب وابن كنانة ومطرف وعبد الملك ومحمد بن مسلمة ، وقال آخرون : لا يجزئ الجنب الغسل للجمعة [ ص: 102 ] إذا لم يذكر جنابته ، ولا يجزيه عن الجنابة إلا الغسل الذي يعتد به لها بقصد منه إلى ذلك ونية ، ورفع لجنابته بإرادة ذلك وذكره لها ; لأن الفرائض لا تؤدى إلا بذلك ، ولأن الغسل للجمعة سنة واستحباب ، ومحال أن تجزئ سنة عن فرض كما لا تجزئ ذلك في شيء من الصلاة وسائر الأعمال التي فيها الفرض والنفل ، وهذا القول صح في النظر ، وهو قول مالك والشافعي وداود بن علي وأحمد بن حنبل ، وإليه ذهب ابن القاسم صاحب مالك وابن عبد الحكم ، وروياه عن مالك .

وأما حديث مالك عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة : كنت أغتسل أنا ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - من إناء واحد فليس عند يحيى في الموطأ ، ولذلك لم يذكره هاهنا وعنده في ذلك حديث ابن شهاب عن عروة ، عن عائشة ، وقد تقدم ذكره وما فيه من الأحكام في باب ابن شهاب من هذا الكتاب ، وقد جمعهما ابن بكير وغيره : حديث هشام وحديث ابن شهاب ، ورواه القعنبي عن مالك عن هشام ، أو ابن شهاب على الشك ، ولم يقل لفظهما .




الخدمات العلمية