الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
137 حديث ثان لهشام بن عروة

مالك عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة أنها قالت : قالت فاطمة ابنة أبي حبيش : يا رسول الله ، إني لا أطهر أفأدع الصلاة ؟ فقال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إنما ذلك عرق ، وليس [ ص: 103 ] بالحيضة ، فإذا أقبلت الحيضة فاتركي الصلاة ، فإذا ذهب قدرها فاغسلي عنك الدم وصلي .

التالي السابق


هكذا روى هذا الحديث عن مالك جماعة رواة الموطأ فيما علمت ، لم يختلفوا في إسناده ولفظه ، وكذلك لم يختلف الرواة عن هشام في إسناده ، واختلفوا عنه في بعض ألفاظه ، وممن رواه عن هشام بهذا الإسناد حماد بن زيد وأبو حنيفة وأبو معاوية وابن عيينة وحماد بن سلمة ومحمد بن كناسة ، وبعضهم يذكر فيه ألفاظا لا يذكرها غيره منهم ، وربما أوجبت تلك الألفاظ أحكاما ، فرواية حماد بن زيد عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة ، أن فاطمة بنت أبي حبيش استفتت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت : يا رسول الله ، إني أستحاض فلا أطهر أفأدع الصلاة ؟ فقال : إنما ذلك عرق وليست بالحيضة ، فإذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة ، فإذا أدبرت فاغسلي عنك أثر الدم وتوضئي ، فإنما ذلك عرق وليست بالحيضة فقيل لحماد : فالغسل ؟ فقال : ومن يشك في ذلك غسلا واحدا بعد الحيضة .

وأما رواية أبي حنيفة فحدثنا خلف بن قاسم بن سهل الحافظ قال : حدثنا محمد بن الحسين بن صالح السبيعي قال : حدثنا محمد بن الحسين بن سماعة قال : حدثنا أبو نعيم الفضل بن دكين ، واسم دكين عمرو ، قال : حدثنا أبو حنيفة عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة ، أن فاطمة بنت أبي حبيش قالت : يا رسول الله ، إني أحيض في الشهر والشهرين ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : هذا عرق من دمك ، فإذا أقبلت حيضتك فدعي الصلاة ، وإذا أدبرت فاغتسلي لطهرك .

[ ص: 104 ] وأما رواية أبي معاوية فحدثنا أحمد بن قاسم بن عيسى قال : حدثنا عمر بن إبراهيم قال : حدثني الحسن بن إسماعيل المحاملي قال : حدثنا يعقوب بن إبراهيم الدورقي قال : حدثنا أبو معاوية قال : حدثنا هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة قالت : جاءت فاطمة بنت أبي حبيش إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت يا رسول الله ، إني امرأة أستحاض فلا أطهر أفأدع الصلاة ؟ قال : لا ، إنما ذلك عرق وليس بالحيضة ، فإذا أقبلت حيضتك فدعي الصلاة ، فإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم ثم اغتسلي قال هشام : أي ثم توضئي لكل صلاة حتى يجيء ذلك الوقت .

حدثنا عبد الوارث بن سفيان وسعيد بن نصر قالا : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا محمد بن إسماعيل قال : حدثنا الحميدي قال : حدثنا سفيان قال : حدثنا هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة ، أن فاطمة ابنة أبي حبيش الأسدية كانت تستحاض فسألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال لها : إنما ذلك عرق ، وليس بالحيضة ، فإذا أقبلت الحيضة فاتركي الصلاة ، وإذا أدبرت فاغتسلي وصلي ، أو قال : اغسلي عنك الدم وصلي قالت عائشة وهي إحدى نسائنا .

وحدثنا عبد الوارث بن سفيان قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا جعفر بن محمد الصائغ قال : حدثنا عفان قال : حدثنا حماد بن سلمة قال : أخبرنا هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة أن فاطمة قالت : يا رسول الله ، إني مستحاضة أفأترك الصلاة ؟ قال : إنما ذلك عرق ، وليس بالحيضة ، فإذا أقبلت الحيضة فاتركي الصلاة ، وإذا ذهب وقتها فاغسلي عنك الدم ، ثم تطهري وصلي قال هشام : كان عروة يقول : الغسل الأول ثم الطهر بعد .

وحدثنا أحمد بن قاسم وعبد الوارث بن سفيان قالا : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا الحارث بن أبي أسامة وأحمد بن سعيد الجمال قالا : حدثنا محمد بن كناسة قال : حدثنا هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة قالت : أتت [ ص: 105 ] فاطمة بنت أبي حبيش النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت : إني أستحاض فلا أطهر أفأدع الصلاة ؟ قال : إنما ذلك ليس بحيض ولكنه عرق ، فإذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة ، وإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم وصلي .

ورواه يحيى بن هشام عن هشام بن عروة بإسناده مثله ، وقال فيه : إذا أدبرت فاغسلي عنك الدم وتوضئي عند كل صلاة وصلي .

ورواه الزهري عن عروة فاختلف فيه عليه اختلافا كثيرا ، قال فيه الأوزاعي عن الزهري عن عروة وعمرة أن عائشة قالت : استحيضت أم حبيبة بنت جحش وهي تحت عبد الرحمن بن عوف سبع سنين ، فأمرها النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة ، وإذا أدبرت فاغتسلي وصلي .

قال أبو داود : ولم يذكر هذا الكلام أحد من أصحاب الزهري غير الأوزاعي ، رواه عن الزهري عمرو بن الحارث ويونس بن يزيد وابن أبي ذئب ومعمر وإبراهيم بن سعد وسليمان بن كثير وابن إسحاق وابن عيينة ولم يذكروا هذا الكلام ، وإنما هذا لفظ حديث هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة ، قال أبو داود : وزاد ابن عيينة فيه أمرها أن تدع الصلاة أيام أقرائها ، وهو وهم من ابن عيينة ، قال : وحديث محمد بن عمرو عن الزهري فيه شيء يقرب من الذي روى الأوزاعي في حديثه .

حدثنا محمد بن المثنى قال : حدثنا ابن أبي عدي عن محمد بن عمرو قال : حدثني ابن شهاب عن عروة بن الزبير ، عن فاطمة بنت أبي حبيش أنها كانت تستحاض ، فقال لها النبي - صلى الله عليه وسلم - : إذا كان دم الحيض فإنه دم أسود يعرف ، فإذا كان ذلك فأمسكي عن الصلاة ، فإذا كان الآخر فتوضئي وصلي ، فإنما ذلك عرق .

[ ص: 106 ] قال أبو داود : قال ابن المثنى : هكذا حدثنا به ابن أبي عدي من كتابه ، ثم حدثنا بعد حفظا فقال : حدثنا محمد بن عمرو عن الزهري عن عروة ، عن عائشة أن فاطمة كانت تستحاض فذكره .

قال أبو عمر : روى هذا الحديث سهيل بن أبي صالح عن الزهري عن عروة بن الزبير قال : حدثتني فاطمة بنت أبي حبيش أو أسماء ، حدثتني أن فاطمة ، فلم يقم الحديث .

وقال فيه : إبراهيم بن سعد عن ابن شهاب عن عمرة بنت عبد الرحمن أنها سمعت عائشة تقول : جاءت أم حبيبة بنت جحش إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكانت قد استحيضت سبع سنين ، فاشتكت ذلك إليه واستفتته ، فقال لها : إن هذا ليس بالحيضة ، وإنما هو عرق فاغتسلي ثم صلي ، قالت عائشة : فكانت أم حبيبة تغتسل لكل صلاة وتصلي .

وقال فيه عمرو بن الحارث عن ابن شهاب ، عن عروة وعمرة ، عن عائشة ، أن أم حبيبة بنت جحش ختنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتحت عبد الرحمن بن عوف استحيضت سبع سنين ، فقال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إن هذه ليست بالحيضة ، ولكن هذا عرق فاغتسلي وصلي ، وقد ذكرنا الآثار وما لعلماء الأمصار من المذاهب في هذا الباب ممهدا في باب نافع من هذا الكتاب والحمد لله .

وأما حديث مالك عن هشام ففيه من الفقه أن الحيض يمنع المرأة الحائض من الصلاة ، وأن من الدم الخارج من الرحم دما لا تمتنع معه المرأة من الصلاة وهو العرق الذي قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ومعنى قوله : إنما ذلك عرق يريد عرق انفجر أو انقطع ، وهي الاستحاضة ، ولهذا سألته فاطمة إذ أشكل [ ص: 107 ] عليها ذلك ، فأجابها بجواب يدل على أنها كانت تميز انفصال دم حيضها من دم استحاضتها ، فلهذا قال لها : إذا أقبلت الحيضة فاتركي الصلاة ، فإذا ذهب قدرها فاغتسلي وصلي ، وهذا نص صحيح في أن الحائض تترك الصلاة ، ليس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الباب أثبت منه من جهة نقل الآحاد العدول ، والأمة مجمعة على ذلك ، وعلى أن الحائض بعد طهرها لا تقضي صلاة أيام حيضتها لا خلاف في ذلك بين علماء المسلمين ، فلزمت حجته وارتفع القول فيه .

وقد روى أبو قلابة وقتادة جميعا عن معاذة العدوية ، عن عائشة ، أن امرأة سألتها أتقضي الحائض الصلاة ؟ فقالت لها عائشة : أحرورية أنت ؟ قد كنا نحيض على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم نطهر فلا نؤمر بقضاء الصلاة . وزاد بعضهم : ونؤمر بقضاء الصوم . وهذا إجماع أن الحائض لا تصوم في أيام حيضتها وتقضي الصوم ، ولا تقضي الصلاة لا خلاف في شيء من ذلك والحمد لله .

وما أجمع المسلمون عليه فهو الحق والخبر القاطع للعذر ، وقال الله - عز وجل - : ( ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا ) والمؤمنون هنا الإجماع ; لأن الخلاف لا يكون معه اتباع غير سبيل المؤمنين ; لأن بعض المؤمنين مؤمنون ، وقد اتبع المتبع سبيلهم ، وهذا واضح يغني عن القول فيه .

وأما قوله : فإذا أدبرت الحيضة فاغسلي عنك الدم وصلي في رواية مالك فقد فسره غيره ممن ذكرنا روايته هاهنا ، وهو أن تغتسل عند إدبار حيضتها وإقبال دم استحاضتها كما تغتسل الحائض عند رؤية طهرها سواء ; لأن المستحاضة طاهر ، ودمها دم عرق كدم جرح سواء فيلزمها عند انقطاع دم حيضتها الاغتسال كما يلزم الطاهر التي ترى دما .

[ ص: 108 ] وفي هذا الحديث دليل على أن المستحاضة لا يلزمها غير ذلك الغسل ; لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يأمرها بغيره ، وفيه رد لقول من رأى عليها الغسل لكل صلاة , ورد لقول من رأى عليها الجمع بين الظهر والعصر بغسل واحد والمغرب والعشاء بغسل واحد وتغتسل للصبح ; لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يأمرها بشيء من ذلك في هذا الحديث ، وهو أصح حديث روي في هذا الباب ، وهو رد لقول من قال بالاستظهار يومين أو ثلاثا ، أو أقل أو أكثر ، وقد استدل بعض من يرى الاستظهار من أصحابنا بقوله - عليه السلام - في هذا الحديث : فإذا ذهب قدرها ، قال : لأن قدر الحيض قد يزيد مرة وينقص أخرى ، فلهذا رأى مالك الاستظهار ثلاثة أيام ليستبين فيها انقضاء دم الحيض من دم الاستحاضة ، واقتصر على القضاء ثلاثة أيام استدلالا بحديث المصراة إذ حد فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاثة أيام في انفصال اللبن .

وقال غيره ممن يخالفه في الاستظهار : معنى قوله : فإذا ذهب قدرها تقول : إذا ذهبت وأدبرت وخرج وقتها ولم يكن في تقديرك أنه بقي شيء منه فاغتسلي حينئذ ، ولا تمكثي وأنت غير حائض دون غسل ودون صلاة . قال : ومحال أن يأمرها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهي قد ذهبت حيضتها أن تترك الصلاة ثلاثة أيام لانتظار حيض يجيء أو لا يجيء .

ومعنى قوله : فإذا ذهب قدرها لا يخلو من أن يكون أراد انقضاء أيام حيضتها ، أو انفصال دم حيضتها من دم استحاضتها وأي ذلك كان فقد أمرها أن تغتسل وتصلي ، ولم يأمرها باستظهار ، ولو كان واجبا عليها لأمرها به ، قالوا : والسنة تنفي الاستظهار ; لأن دم نجاسة جائز أن يكون استحاضة وجائز أن يكون حيضا ، والصلاة فرض بيقين ، فلا يجوز لامرأة أن تدع الصلاة حتى تستيقن أنها حائض .

[ ص: 109 ] وذكروا أن مالكا وغيره من العلماء قد جاء عنهم أنهم قالوا : لأن تصلي المستحاضة وليس عليها ذلك ، خير من أن تدع الصلاة وهي واجبة عليها .

وفي هذا الحديث أيضا رد على من أوجب الوضوء على المستحاضة لكل صلاة ; لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لها : إذا ذهبت الحيضة فاغتسلي وصلي ولم يقل : توضئي لكل صلاة ، وقد ذكرنا القائلين بها في باب الوضوء عليها لكل صلاة ، والقائلين بإيجاب الغسل ، ووجه قول كل واحد منهم مبسوطا ممهدا في باب نافع عن سليمان بن يسار ، والحمد لله .

قال أبو عمر : إذا أحدثت المستحاضة حدثا معروفا معتادا لزمها له الوضوء ، وأما دم استحاضتها فلا يوجب وضوءا ; لأنه كدم الجرح السائل ، وكيف يجب من أجله وضوء وهو لا ينقطع ، ومن كانت هذه حاله من سلس البول والمذي والاستحاضة لا يرفع بوضوئه حدثا ; لأنه لا يتمه إلا وقد حصل ذلك الحدث في الأغلب ، وإلى هذا المذهب ذهب مالك وأصحابه ، وهو ظاهر حديث هشام بن عروة هذا في قصة فاطمة بنت أبي حبيش ، إلا أن عروة كان يفتي بأن المستحاضة تتوضأ لكل صلاة وذلك عند مالك على الإيجاب ، وقد ذكرنا ما في هذا الباب من الآثار المرفوعة وغيرها على اختلافها وذكرنا من تعلق بها وذهب إليها من علماء الصحابة والتابعين وفقهاء المسلمين ، وذكرنا اختلافهم في ذلك وأصل كل واحد منهم في الحيض والطهر والاستحاضة ممهدا مبسوطا في باب نافع عن سليمان من هذا الكتاب ، فلا وجه لإعادة ذلك هاهنا والحمد لله .

[ ص: 110 ] روى مالك في موطئه عن هشام بن عروة ، عن أبيه أنه قال : ليس على المستحاضة إلا أن تغتسل غسلا واحدا ، ثم تتوضأ بعد ذلك لكل صلاة . قال مالك : الأمر عندنا على حديث هشام بن عروة ، عن أبيه ، وهو أحب ما سمعت إلي ، ومن معاني هذا الحديث وجه آخر أخرنا القول فيه في ذلك الباب إلى هذا الموضع ، وهو قول العلماء في المرأة التي لم تحض قط فحاضت يوما وطهرت يوما ، أو حاضت يومين وطهرت يوما أو يومين ونحو هذا ، فأما مالك وأصحابه فقالوا : تجمع أيام الدم بعضها إلى بعض وتطرح أيام التطهر وتغتسل عند كل يوم ترى فيه الطهر أول ما تراه ، وتصلي ما دامت طاهرا ، وتكف عن الصلاة في أيام الدم اليوم واليومين وتحصي ذلك ، فإذا كان ما اجتمع لها من أيام الدم خمسة عشر يوما اغتسلت وصلت ، وإن زاد على خمسة عشر يوما فهي مستحاضة ، وإن كانت خمسة عشر يوما أو أقل تقطعت ، هذه رواية المدنيين عن مالك .

وروى ابن القاسم وغيره عنه أنها تضم أيام الدم بعضها إلى بعض ، فإن دام بها ذلك أيام عادتها استظهرت ثلاثة أيام على أيام حيضتها ، فإن رأت في خلال أيام الاستظهار أيضا طهرا ألغته حتى تجعل ثلاثة أيام للاستظهار وأيام الطهر ، وتصلي وتصوم ويأتيها زوجها ، ويكون ما جمعت من أيام الدم بعضه إلى بعض حيضة واحدة ، ولا تعد أيام الطهر في عدة من طلاق ، فإذا استظهرت بثلاثة أيام بعد أيام حيضتها توضأت لكل صلاة وتغتسل كل يوم من أيام الطهر عند انقطاع الدم ، وإنما أمرت بالغسل لأنها لا تدري لعل الدم لا يرجع إليها .

[ ص: 111 ] ورواية الربيع عن الشافعي مثل رواية المدنيين عن مالك في هذه المسألة اعتبارا لخمسة عشر يوما بلا استظهار ، وكذلك قال محمد بن مسلمة ، ولم يختلف مالك والشافعي إذا كان تقطع حيضتها يوما كاملا أو يوما وليلة أنها في يوم الحيض حائض لا مستحاضة ، وفي يوم الطهر طاهر أو متقطعة ، وقال محمد بن مسلمة : إذا كان طهرها يوما وحيضها يوما ، فطهرها أقل الطهر وحيضها أكثر الحيض ، فكأنها قد حاضت خمسة عشر يوما متوالية وطهرت خمسة عشر ، فحال حيضتها لا يضرها واجتماع الأيام وافتراقها سواء ، ولا يكون مستحاضة .

وأما أبو حنيفة وأصحابه فمذهبهم في هذه المسألة اعتبار أقل الطهر وأقل الحيض ، فأما أبو يوسف فاعتبر أقل الطهر خمسة عشر يوما وجعله كدم متصل ، وأما محمد بن الحسن فاعتبر مقدار الدم والطهر ، فإذا كان بين الدمين من الطهر أقل من ثلاثة أيام ، فإن ذلك كله كدم متصل ، سواء كان الحيض أكثر أو الطهر أكثر ، نحو أن ترى يوما حيضا أو يومين ، ويومين طهرا وساعة دما فيكون جميع ذلك حيضا .

وقال أبو جعفر الطحاوي قد اتفقوا أنه لو انقطع ساعة أو نحوها أنه كدم متصل ، فكذلك اليوم واليومين ; لأنه لا يعتد به من طلاق .

وقد قال أبو الفرج ليس بنكير أن تحيض يوما وتطهر يوما فتتقطع الحيضة عليها ، كما لا ينكر أن يتأخر حيضها عن وقته أن تأخير بعضه عن اتصاله كتأخيره كله ، فمن أجل ذلك كانت بالقليل أيضا ، ثم لم يكن لأن الحيضة لا تكون إلا بأن يقضى لها وقت تام وطهر تام ، أقله فيما روى عبد الملك خمسة أيام ، قال : ولو أن قلة الدم يخرجه من أن يكون حيضا لأخرجته من أن تكون استحاضة ; لأن الدم العرق هو الكثير الزائد على ما يعرف .

[ ص: 112 ] قال أبو عمر : راعى عبد الملك وأحمد بن المعذل في هذه المسألة ما أصلاه في أقل الطهر خمسة أيام ، وراعى محمد بن مسلمة خمسة عشر طهرا ، وجعل كل ما يأتي من الدم قبل تمام الطهر عرقا لا تترك فيه الصلاة ، وكذلك يلزم كل من أصل في أقل الطهر أصلا بعدة معلومة أن يعتبرها في هذه المسألة ، وقد ناقض الكوفيون لأنهم قالوا في هذه المسألة بمراعاة ثلاثة أيام طهرا ، وقولهم في أقل الطهر إنه خمسة عشر يوما ، وقد ذكرنا في باب نافع من أصول العلماء وأكثرهما ، واختلاف العلماء في ذلك في باب نافع من هذا الكتاب والحمد لله .

قال أبو عمر : إنما أجرينا هذه المسألة هاهنا ، وإن كانت قد مرت في باب نافع لأنها داخلة في معنى قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إذا أقبلت الحيضة فاتركي الصلاة ، فإذا ذهب قدرها وأدبرت فاغتسلي وصلي ، وقد ذكرنا حكم أقل الحيض والطهر وأكثرهما واختلاف العلماء في ذلك في باب نافع من هذا الكتاب والحمد لله .




الخدمات العلمية