الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          [ ص: 525 ] يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه وأنه إليه تحشرون واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة واعلموا أن الله شديد العقاب واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض تخافون أن يتخطفكم الناس فآواكم وأيدكم بنصره ورزقكم من الطيبات لعلكم تشكرون يقال دعاه فأجابه واستجابه واستجاب له ، وكثر المتعدي في التنزيل ، ويقول الراغب : إن أصل الاستجابة التهيؤ والاستعداد للإجابة فحل محلها ، أقول : والأقرب إلى الفهم قلب هذا وعكسه ، وهو أن الاستجابة هي الإجابة بعناية واستعداد ، فتكون زيادة السين والتاء للمبالغة ، وهو يقرب مما قالوه في معانيهما من التكلف والتحري أو هو بعينه ، إلا أنه لا يعبر به فيما يسند إلى الله تعالى كقوله : فاستجاب لهم ربهم ( 3 : 195 ) فقوله : يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم معناه إذا علمتم ما فرضنا عليكم من الطاعة ، وشأن سماع التفقه من الهداية ، وقد دعاكم الرسول بالتبليغ عن الله تعالى لما يحييكم ، فأجيبوا الدعوة بعناية وهمة ، وعزيمة وقوة ، فهو كقوله تعالى : خذوا ما آتيناكم بقوة ( 2 : 63 ) والمراد بالحياة هنا حياة العلم بالله تعالى وسننه في خلقه ، وأحكام شرعه والحكمة والفضيلة والأعمال الصالحة التي تكمل بها الفطرة الإنسانية في الدنيا ، وتستعد للحياة الأبدية في الآخرة ، وقيل : المراد بالحياة هنا الجهاد في سبيل الله ; لأنه سبب القوة والعزة والسلطان - والصواب أن الجهاد يدخل فيما ذكرنا ، وليس هو الحياة المطلوبة ، بل هو وسيلة لتحققها وسياج لها بعد حصولها ، وقيل : هي الإيمان والإسلام ، وإنما يصح باعتبار ما كان يتجدد من الأحكام ، وثمرته في القلوب والأعمال ، وبما في الاستجابة من معنى المبالغة في الإجابة ، وإلا فالخطاب للمؤمنين . وقيل : هي القرآن ، ولاشك أنه ينبوعها الأعظم ، الهادي إلى سبيلها الأقوم ، مع بيانه من سنة الرسول وهديه الذي أمرنا بأن يكون لنا فيه أسوة حسنة ، ويدل عليه اقتران طاعته بطاعة الله تعالى ، بل قال بعض العلماء : إنه كان إذا دعا شخصا وهو يصلي يجب عليه أن يترك [ ص: 526 ] الصلاة استجابة له ، وأن الصلاة لا تبطل بإجابته ، بل له أن يبني على ما كان صلى ويتم ، واستدلوا على ذلك بحديث رواه البخاري عن سعيد بن المعلى قال : كنت أصلي في المسجد فدعاني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلم أجبه - أو قال : فلم آته حتى صليت ثم أتيته - فقلت : يا رسول الله إني كنت أصلي ، فقال : " ألم يقل الله : استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم ؟ الحديث . وروى الترمذي والحاكم من حديث أبي هريرة " أنه صلى الله عليه وسلم دعا أبي بن كعب وهو في الصلاة " وذكر نحوا مما رواه البخاري عن أبي سعيد وصححه . وقال الحافظ في باب فضائل الفاتحة من الفتح عند ذكر فقه الحديث : وفيه أن الأمر يقتضي الفور; لأنه صلى الله عليه وسلم عاتب الصحابي على تأخير إجابته ، وفيه استعمال صيغة العموم في الأحوال كلها . قال الخطابي : فيه أن حكم لفظ العموم أن يجري على جميع مقتضاه ، وأن الخاص والعام إذا تقابلا كان العام منزلا على الخاص ; لأن الشارع حرم الكلام في الصلاة على العموم ثم استثنى منها إجابة النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة ( وفيه ) أن إجابة دعاء النبي صلى الله عليه وسلم لا تفسد الصلاة - هكذا صرح به جماعة من الشافعية وغيرهم ، وفيه بحث لاحتمال أن تكون إجابته واجبة مطلقا سواء كان المخاطب مصليا أو غير مصل ، أما كونه يخرج لإجابته من الصلاة أو لا يخرج فليس في الحديث ما يستلزمه ، فيحتمل أن تجب الإجابة ، ولو خرج المجيب من الصلاة وإلى ذلك جنح بعض الشافعية إلى آخر ما أورده ، ولا تعرض فيه لما يدعو المرء إليه ، وهل يشترط لما ذكر أن يكون من أمر الدين أم لا ؟ وقد كان صلى الله عليه وسلم دعا سعيدا هذا ليعلمه فضل سورة الفاتحة ، وأنها السبع المثاني ، وفي متن الحديث شيء من الاضطراب على أنه لا يتعلق به بعده صلى الله عليه وسلم عمل .

                          وأحق من هذا بالبيان أن طاعته صلى الله عليه وسلم واجبة في حياته ، وبعد مماته فيعلم أنه دعا إليه دعوة عامة من أمر الدين الذي بعثه الله تعالى به ، كبيانه لصفة الصلوات وعددها والمناسك ولو بالفعل ، مع قوله : صلوا كما رأيتموني أصلي وقوله : خذوا عني مناسككم ومقادير الزكاة وغير ذلك من السنن العملية الدينية المتواترة ، وكذا أقواله المتواترة التي أمر بتبليغها فيما تدل عليه دلالة قطعية - وأما غير القطعي رواية ودلالة من سننه فهو محل الاجتهاد ، فكل من ثبت عنده شيء منها ببحثه أو بحث العلماء الذين يثق بهم على أنه من أمر الدين ، فينبغي له الاهتداء به فيما دل عليه من الأحكام الخمسة بحسبها - الوجوب ، والندب ، والحرمة ، والكراهة ، والإباحة - ; لأن الأمور العملية الاجتهادية يكتفى فيها بالظن الراجح في الدليل وفي دلالته ، ولكن لا يملك أحد من المسلمين أن يجعل اجتهاده تشريعا عاما يلزمه غيره أو ينكر عليه مخالفته أو مخالفة من قلده هو فيه ، إلا الأئمة أولي الأمر ، فتجب طاعتهم في اجتهادهم في أحكام المعاملات القضائية والسياسية إذا حكموا بها لإقامة الشرع وصيانة [ ص: 527 ] النظام العام - وعلى هذا كله جرى السلف الصالح ، وجميع أئمة الأمصار ، ومن كلامهم : إن المجتهد لا يقلد مجتهدا ، وإنه لا يجب على أحد أن يقلد أحدا معينا في دينه ، ولكن من عرض له أمر يستفتي فيه من يطمئن قلبه لعلمه بالكتاب والسنة ، ويأخذ بفتواه إذا اطمأن لها . وقد امتنع الإمام مالك من إجابة المنصور ثم الرشيد إلى ما عرضاه عليه من إلزام الناس العمل بكتبه ، حتى الموطأ الذي هو سنن واطأه جل علماء المدينة عليها .

                          أما من يقولون إن النبي صلى الله عليه وسلم إنما كانت تجب طاعته في عهده ، ولا يجب العمل بعده إلا بالقرآن وحده ، فهم زنادقة ضالون مضلون يريدون هدم الإسلام بدعوى الإسلام ، بل تجب طاعة الرسول كما أطلقها الله تعالى ، ويجب التأسي به في كل زمان إلى يوم القيامة ، بل نقول : إننا نهتدي بخلفائه الراشدين ، وأئمة أهل بيته الطاهرين ، وعلماء أصحابه العاملين ، وعلماء السلف من التابعين ، وأئمة الأمصار من أهل البيت والفقهاء المحدثين ، يهتدى بهم في آدابهم واجتهاداتهم القضائية والسياسية مع مراعاة القواعد الشرعية والمصالح العامة ، ولا نسمي شيئا منها دينا ندين لله به إلا ما ثبت في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم على الوجه المتقدم ، وأما السنن والإرشادات النبوية في أمور العادات كاللباس والطعام والشراب والنوم فلم يعدها أحد من السلف ، ولا علماء الخلف من أمور الدين ، فتسمية شيء منها دينا بدعة منكرة; لأنه تشريع لم يأذن به تعالى ، وقد فصلنا هذه المسألة من قبل في هذا التفسير وفي غيره من مقالات المنار .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية