الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                              قوله تعالى: أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا

                                                                                                                                                                                              دل القرآن في غير موضع على مواقيت الصلوات الخمس، وجاءت السنة مفسرة لذلك ومبينة له: [ ص: 632 ] فمن ذلك: قول الله تعالى: أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل وقرآن الفجر

                                                                                                                                                                                              وقد ذكر غير واحد من الأئمة كمالك والشافعي : أن هذه الآية تدل على الصلوات الخمس، وروي معناه عن طائفة من السلف: فقال ابن عمر : دلوك الشمس: ميلها - يشير إلى صلاة الظهر حينئذ . وعن ابن عباس ، قال: دلوك الشمس: إذا جاء الليل . وغسق الليل: اجتماع الليل وظلمته .

                                                                                                                                                                                              وقال قتادة : دلوك الشمس: إذا زالت الشمس عن بطن السماء لصلاة الظهر، وغسق الليل: بدء الليل صلاة المغرب .

                                                                                                                                                                                              وقد قيل: إن الله تعالى ذكر ثلاثة أوقات، لأن أصل الأوقات ثلاثة . ولهذا تكون في حالة جواز الجمع بين الصلاتين ثلاثة فقط، فدلوك الشمس: وقت لصلاة الظهر والعصر في الجملة، وغسق الليل: وقت لصلاة المغرب والعشاء في الجملة، ثم ذكر وقت الفجر بقوله: وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا

                                                                                                                                                                                              وقد ثبت في "الصحيحين " عن أبي هريرة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: "يجتمع ملائكة الليل وملائكة النهار في صلاة الفجر" ثم يقول أبو هريرة : اقرءوا إن شئتم: وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا وكذلك قوله تعالى: وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل فقوله: طرفي النهار يدخل فيه صلاة الفجر وصلاة العصر . [ ص: 633 ] وقد قيل: إنه يدخل فيه صلاة الظهر والعصر، لأنهما فى الطرف الأخير . وزلف الليل يدخل فيه المغرب والعشاء .

                                                                                                                                                                                              وكذا قال قتادة : إن زلف الليل يدخل فيه المغرب والعشاء، وإن طرفي النهار يدخل فيه الفجر والعصر .

                                                                                                                                                                                              وروي عن الحسن، أنه قال في قوله: طرفي النهار قال: صلاة الفجر، والطرف الآخر الظهر والعصر وزلفا من الليل المغرب والعشاء . وكذلك قوله: وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها ومن آناء الليل فسبح وأطراف النهار

                                                                                                                                                                                              وفي الحديث الصحيح عن جرير البجلي حديث الرؤية: "فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا"، ثم قرأ: وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها . وقد أدرج أكثر الرواة القراءة في الحديث، وبين بعضهم: أن جريرا هو الذي قرأ ذلك، فبين أن صلاة الصبح وصلاة العصر يدخل في التسبيح قبل طلوع الشمس وقبل غروبها، وأما التسبيح من آناء الليل فيدخل فيه صلاة المغرب وصلاة العشاء . وقوله: وأطراف النهار يدخل فيه صلاة الفجر وصلاة العصر، وربما دخلت فيه صلاة الظهر، لأنها في أول طرف النهار الآخر . وقال تعالى: فاصبر على ما يقولون وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب ومن الليل فسبحه وأدبار السجود

                                                                                                                                                                                              وقد قال ابن عباس وأبو صالح : إن التسبيح قبل طلوع الشمس وقبل الغروب: الصبح وصلاة العصر . وقوله: ومن الليل فسبحه قال مجاهد : الليل كله . وهذا يدخل فيه صلاة المغرب والعشاء، ويدخل فيه التهجد المتنفل به - أيضا .

                                                                                                                                                                                              وقال خصيف: المراد بتسبيحه من الليل: صلاة الفجر المكتوبة، وفيه بعد . وأما وأدبار السجود فقال أكثر الصحابة، منهم: عمر ، وعلي . والحسن بن علي، وأبو هريرة ، وأبو أمامة وغيرهم: إنهما ركعتان بعد المغرب، وهو رواية عن ابن عباس ، وروي عنه مرفوعا . خرجه الترمذي بإسناد فيه ضعف .

                                                                                                                                                                                              فاشتملت الآية على الصلوات الخمس مع ذكر بعض التطوع .

                                                                                                                                                                                              وقال تعالى: واصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا وسبح بحمد ربك حين تقوم ومن الليل فسبحه وإدبار النجوم

                                                                                                                                                                                              فقوله: حين تقوم قد فسر بإرادة القيام إلى الصلاة، وهو قول زيد بن أسلم والضحاك ، وفسر بالقيام من النوم، وهو قول أبي الجود . وفسر بالقيام من المجالس . [ ص: 635 ] وقوله: ومن الليل فسبحه قال مجاهد : من الليل كله، يدخل في ذلك صلاة المغرب والعشاء وصلاة الليل المتطوع بها .

                                                                                                                                                                                              وفسره خصيف بصلاة الفجر، وفيه نظر . وإدبار النجوم ركعتا الفجر كذا قاله علي وابن عباس في رواية، وروي عن ابن عباس مرفوعا .

                                                                                                                                                                                              خرجه الترمذي وفيه ضعف .

                                                                                                                                                                                              وقال تعالى: فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون وله الحمد في السماوات والأرض وعشيا وحين تظهرون

                                                                                                                                                                                              قال الإمام أحمد : نا ابن مهدي: نا سفيان ، عن عاصم ، عن أبي رزين . قال: جاء نافع بن الأزرق إلى ابن عباس ، فقال: الصلوات الخمس في القرآن؟ فقال: نعم، فقرأ: فسبحان الله حين تمسون قال: صلاة المغرب وحين تصبحون صلاة الفجر وعشيا صلاة العصر وحين تظهرون صلاة الظهر، وقرأ: ومن بعد صلاة العشاء ثلاث عورات لكم ورواه آدم بن أبي إياس في "تفسيره" عن حماد بن سلمة ، عن عاصم . قال: جاء نافع - ولم يذكر أبا رزين .

                                                                                                                                                                                              وروى آدم - أيضا -: نا شريك، عن ليث بن أبي سليم ، عن الحكم بن عتيبة ، عن أبي البختري ، عن ابن عباس ، قال: جمعت هذه الآية الصلوات كلها - فذكره بمعناه، ولم يذكر فيه: صلاة العشاء . [ ص: 636 ] روي عن الحسن وقتادة في قوله تعالى: فسبحان الله حين تمسون قال: صلاة المغرب والعشاء، وحين تصبحون صلاة الغداة . وله الحمد في السماوات والأرض وعشيا قال: العصر . وحين تظهرون قال: الظهر .

                                                                                                                                                                                              خرجه البيهقي وغيره .

                                                                                                                                                                                              * * *

                                                                                                                                                                                              [قال البخاري ] : حدثنا عبد الله بن يوسف: أنبأ مالك ، عن أبي الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: "يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار، ويجتمعون في صلاة الفجر وصلاة العصر، ثم يعرج الذين كانوا فيكم، فيسألهم - وهو أعلم بهم -: كيف تركتم عبادي; فيقولون: تركناهم وهم يصلون، وأتيناهم وهم يصلون " .

                                                                                                                                                                                              قوله: "يتعاقبون فيكم ملائكة" جمع فيه الفعل مع إسناده إلى ظاهر، وهو مخرج على اللغة المعروفة بلغة "أكلوني البراغيث "، وقد عرفها بعض متأخري النحاة بهذا الحديث، فقال: "هي لغة: يتعاقبون فيكم ملائكة" .

                                                                                                                                                                                              والتعاقب: التناوب والتداول، والمعنى: أن كل ملائكة تأتي تعقب الأخرى .

                                                                                                                                                                                              وقد دل الحديث على أن ملائكة الليل غير ملائكة النهار .

                                                                                                                                                                                              وقد خرجا في "الصحيحين " من حديث الزهري ، عن سعيد وأبي [ ص: 637 ] سلمة، عن أبي هريرة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: "تجتمع ملائكة الليل، وملائكة النهار في صلاة الفجر" . ثم يقول أبو هريرة : اقرءوا إن شئتم: إن قرآن الفجر كان مشهودا

                                                                                                                                                                                              ففي هذه الرواية: ذكر اجتماعهم في صلاة الفجر، واستشهد أبو هريرة بقول الله عز وجل: إن قرآن الفجر كان مشهودا وقد روي في حديث من رواية أبي الدرداء - مرفوعا -: "أنه يشهده الله وملائكته " .

                                                                                                                                                                                              وفي رواية: "ملائكة الليل وملائكة النهار،

                                                                                                                                                                                              خرجه الطبراني وابن منده وغيرهما .

                                                                                                                                                                                              فقد يكون تخصيص صلاة الفجر لهذا، وصلاة العصر يجتمع - أيضا - فيها ملائكة الليل والنهار، كما دل عليه حديث الأعرج ، عن أبي هريرة . وقد روي نحوه من حديث حميد الطويل ، عن بكر المزني، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلا . وهؤلاء الملائكة، يحتمل أنهم المعقبات، وهم الحفظة، ويحتمل أنهم كتبة الأعمال .

                                                                                                                                                                                              وروى أبو عبيدة ، عن أبيه عبد الله بن مسعود ، في قوله: إن قرآن الفجر كان مشهودا قال: يعني صلاة الصبح، يتدارك فيه الحرسان ملائكة الليل وملائكة النهار . [ ص: 638 ] وقال إبراهيم، عن الأسود بن يزيد : يلتقي الحارسان من ملائكة الليل وملائكة النهار عند صلاة الصبح، فيسلم بعضهم على بعض، ويحيي بعضهم بعضا، فتصعد ملائكة الليل وتبسط ملائكة النهار .

                                                                                                                                                                                              قال ابن المبارك : وكل بابن آدم خمسة أملاك: ملكا الليل، وملكا النهار . يجيئان ويذهبان، والخامس لا يفارقه ليلا ولا نهارا .

                                                                                                                                                                                              وممن قال: إن ملائكة الليل وملائكة النهار تجتمع في صلاة الفجر . وفسر بذلك قول الله عز وجل: وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا مجاهد ومسروق وغيرهما .

                                                                                                                                                                                              قال ابن عبد البر : والأظهر أن ذلك في الجماعات، قال: وقد يحتمل الجماعات وغيرها .

                                                                                                                                                                                              قلت: يشهد للأول قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إذا أمن الإمام فأمنوا، فمن وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه " . ونهى النبي - صلى الله عليه وسلم - من أكل الثوم أن يشهد المسجد، وتعليله: أن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم .

                                                                                                                                                                                              وقد بوب البخاري على اختصاصه بالجماعات في "أبواب صلاة الجماعة" . كما سيأتي في موضعه - إن شاء الله تعالى .

                                                                                                                                                                                              ويشهد للثاني: أن المصلي ينهى عن أن يبصق في صلاته عن يمينه; لأن [ ص: 639 ] عن يمينه ملكا، ولا يفرق في هذا بين مصلي جماعة وفرادى .

                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية