الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      ولما تقدم أنه نذير وبشير أتبع ذلك بما يشمل الأمرين بقوله عطفا على ألا تعبدوا مشيرا إلى أنه لا يقدر أحد أن يقدر الله حق قدره: وأن استغفروا ربكم أي اطلبوا مع الإخلاص في العبادة أن يغفر لكم المحسن إليكم ما فرطتم فيه; وأشار بأداة التراخي إلى علو رتبة التوبة، وأن لا سبيل إلى طلب الغفران إلا بها فقال: ثم توبوا إليه أي ارجعوا بالظاهر والباطن رجوعا لا رجعة فيه [وإن كان المراد بها الدوام فجليل رتبته غير خفي] يمتعكم [أي يمد في تلذيذكم بالعيش مدا، من متع النهار: ارتفع، والضحى: بلغ غايته، وأمتعه الله بكذا: أبقاه وأنشأه إلى أن يبلغ شبابه]; و[لما]، كان التمتيع - وهو المتاع البالغ فيه حتى لا يكون فيه كدر - لا يكون إلا في الجنة فلذلك جعل المصدر متاعا وأنه وضع موضع "تمتيعا"، هذا المصدر [ ص: 228 ] ووصفه بقوله: حسنا ليدل على أنه أنهى ما يليق بهذه الدار، ولقد كان ما أوتيه الصحابة رضي الله عنهم في زمن عمر رضي الله عنه من الظفر بالإهداء وسعة الدنيا ورغد العيش كذلك إلى أي: ممتدا إلى أجل مسمى أي: في علمه إما بالموت لكل واحد أو بانقضاء ما ضربه من الأجل للنعمة التي أشار إليها ويؤت كل ذي فضل أي: عمل فاضل فضله أي: جزاء ما قصد بعمله على وجه التفضيل منه سبحانه؛ فإنه لا يجب لأحد عليه شيء، وهو مع ذلك على حسب التفضيل: الحسنة بعشرة أمثالها; قال ابن مسعود وهلك من غلبت آحاده عشراته.

                                                                                                                                                                                                                                      ولما انقضى التبشير مجزوما به، أتبعه التحذير مخوفا منه لطفا بالعباد واستعطافا لهم فقال: وإن تولوا أي: تكلفوا أنفسكم ضد ما طبعها الله عليه من سلامة الفطرة وسهولة الانقياد من الإعراض ولو أدنى درجاته بما أشار إليه حذف التاء فإني أخاف عليكم أي: والعاقل من أبعد عن المخاوف عذاب يوم كبير أي: لكبر ما فيه من العذاب ممن قدر على إثباتكم، وخص اسم الرب تذكيرا بما له من النعم في الإيجاد والإنشاء والتربية; ولما كان الاستغفار - وهو طلب الغفران - مطلوبا في نفسه لكنه لا يعتبر إلا إذا قرن بالتوبة، عطف عليه [ ص: 229 ] ب: " ثم " إشارة إلى عظيم رتبتها وعلى منزلتها وإن كان المراد بها الدوام عليها فجليل رتبته غير خفي، وفي التعبير عن العمل بالفضل إشارة إلى أنه لم يقع التكليف إلا بما في الوسع مع أنه من معالي الأخلاق، لأن الفضل في الأصل ما فضل عن الإنسان وتعانيه من كريم الشمائل، وما كان كذلك فهو في الذروة من الإحكام؛ لأنه منع الفعل من الفساد; والحكيم من الحكمة وهي العلم بما يجمع عليه مما يمنع الفعل من الفساد والنقض، وبها يميز الحسن من القبيح والفاسد من الصحيح، وقد أشارت الآية إلى أن الاستغفار والتوبة سبب السعة ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنـزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم وأن الإعراض سبب الضيق، كما قال صلى الله عليه وسلم: « إن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه ». ويؤت كل ذي فضل فضله إشارة إلى ثواب الآخرة، فالتوبة سبب طيب العيش في الدنيا والآخرة .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير في كتابه في مناسبة هذه السورة للتي قبلها: ولما كانت سورة يونس عليه السلام قد تضمنت - من آي التنبيه والتحريك للفطر ومن العظات والتخويف والتهديد والترهيب [ ص: 230 ] والترغيب وتقريع المشركين والجاحدين والقطع بهم والإعلام بالجريان على حكم السوابق ووجوب التفويض والتسليم - ما لم تشمل على مثله سورة لتكرر هذه الأغراض فيها، وسبب تكرر ذلك فيها - والله أعلم - أنها أعقبت بها السبع الطوال، وقد مر التنبيه على أن سورة الأنعام بها وقع استيفاء بيان حال المتنكبين عن الصراط المستقيم على اختلاف أحوالهم، ثم استوفت سورة الأنعام ما وقعت الإحالة عليه من أحوال الأمم السالفة كما تقدم وبسطت ما أجمل من أمرهم، ثم أتبع ذلك بخطاب المستجيبين لرسول الله صلى الله عليه وسلم وحذروا وأنذروا، وكشف عن حال من تلبس بهم من عدوهم من المنافقين، وتم المقصود من هذا في سورتي الأنفال وبراءة، ثم عاد الخطاب إلى طريقة الدعاء إلى الله والتحذير من عذابه بعد بسط ما تقدم، فكان مظنة تأكيد التخويف والترهيب لإتيان ذلك بعد بسط حال وإيضاح أدلة، فلهذا كانت سورة يونس مضمنة من هذا ما لم يضمن غيرها، ألا ترى افتتاحها بقوله: إن ربكم الله الآيات. ومناسبة هذا الافتتاح دعاء الخلق إلى الله في سورة البقرة بقوله تعالى: يا أيها الناس اعبدوا ربكم ثم قد نبهوا هنا كما نبهوا هناك فقال تعالى: أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورة مثله ثم تأكدت المواعظ والزواجر والإشارات إلى أحوال المكذبين والمعاندين، [ ص: 231 ] فمن التنبيه: إن ربكم الله هو الذي جعل الشمس إن في اختلاف الليل والنهار قل هل من شركائكم من يبدأ الخلق ثم يعيده قل هل من شركائكم من يهدي إلى الحق قل انظروا ماذا في السماوات والأرض - إلى غير هذا، وعلى هذا السنن تكررت العظات والأغراض المشار إليها في هذه السورة إلى قوله: يا أيها الناس قد جاءكم الحق من ربكم فحصل من سورة الأعراف والأنفال وبراءة ويونس تفصيل ما كان أجمل فيما تقدمها كما حصل مما تقدم تفصيل أحوال السالكين والمتنكبين، فلما تقرر هذا كله أتبع المجموع بقوله: كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير وتأمل مناسبة الإتيان بهذين الاسمين الكريمين وهما " الحكيم الخبير " ثم تأمل تلاؤم صدر السورة بقوله: يا أيها الناس قد جاءكم الحق من ربكم وقد كان تقدم قوله تعالى: قد جاءتكم موعظة من ربكم فأتبع قوله: قد جاءكم الحق من ربكم بقوله في صدر سورة هود: كتاب أحكمت آياته ثم فصلت فكأنه في معرض بيان الحق والموعظة، وإذا كانت محكمة مفصلة فحق لها أن تكون شفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين، وحق توبيخهم في قوله تعالى: بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه والعجب في عمههم مع \ إحكامه وتفصيله ولكن [ ص: 232 ] الذين حقت عليهم كلمت ربك لا يؤمنون وتأمل قوله سبحانه آخر هذه السورة: وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك وجاءك في هذه الحق وموعظة وذكرى للمؤمنين فكل الكتاب حق وموعظة وذكرى، وإنما الإشارة - والله أعلم - بما أراد إلى ما تقرر الإيماء إليه من كمال بيان الصراط المستقيم وملتزمات متبعيه أخذا وتركا، وذكر أحوال المتنكبين على شتى طرقهم، واختلاف أهوائهم وغاياتهم وشرهم إبليس؛ فإنه متبعهم والقائل لجميعهم في إخبار الله تعالى: إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وقد بسط من أمره وقصته في البقرة والأعراف ما يسر على المؤمنين الحذر منه وعرفهم به، وذكر اليهود والنصارى والمشركون والصابئون والمنافقون وغيرهم، وفصل مرتكب كل فريق منهم كما استوعب ذكر أهل الصراط المستقيم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وفصل أحوالهم ابتداء وانتهاء والتزاما وتركا ما أوضح طريقهم، وعين حزبهم وفريقهم أولئك الذين هدى الله وذكر أحوال الأمم مع أنبيائهم وأخذ كل من الأمم بذنبه مفصلا، وذكر ابتداء الخلق في قصة آدم عليه السلام وحال الملائكة في التسليم والإذعان وذكر فريق الجن من مؤمن وكافر وأمر الآخرة وانتهاء حال الخلائق واستقرارهم الأخروي وتكرير دعاء الخلق إلى الله تعالى طمعا فيه ورحمة وإعلام الخلق بما هو عليه سبحانه وما يجب [ ص: 233 ] له من الصفات العلى والأسماء الحسنى، ونبه العباد على الاعتبار وعلموا طرق الاستدلال ورغبوا ورهبوا وبشروا وأنذروا وأعلموا بافتقار المخلوقات بجملتها إليه سبحانه كما هو المتفرد بخلقهم إلى ما تخلل ذلك مما يعجز الخلائق عن حصره والإحاطة به والله يقول الحق وهو يهدي السبيل فلما تقدم هذا كله في السبع الطوال وما تلاها أعقب ذلك بقوله: كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير ثم أتبع هذا بالإيماء إلى فصول ثلاثة عليها مدار آي الكتب، وهي فصل الإلهية، وفصل الرسالة، وفصل التكاليف، أما الأول فأشار إليه قوله: ألا تعبدوا إلا الله وأما فصل الرسالة فأشار إليه قوله سبحانه: إنني لكم منه نذير وبشير وأما فصل التكاليف فأشار إليه قوله سبحانه: وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه وهذه الفصول الثلاثة هي التي تدور عليها آي القرآن وعليها مدار السورة الكريمة، فلما حصل استيفاء ذلك كله فيما تقدم ولم يبق وجه شبهة للمعاند ولا تعلق للجاحد واتضح الحق وبان قال سبحانه وتعالى: وجاءك في هذه الحق إشارة إلى كمال المقصود وبيان المطلوب واستيفاء التعريف بوضوح الطريق وقد وضح من هذا تلاء السورة الكريمة لما تقدمها، ومما يشهد لهذا - والله أعلم - قوله تعالى: أفمن كان على بينة من ربه ويتلوه شاهد منه وقوله تعالى]: فاستقم كما أمرت ومن تاب معك ولا تطغوا [ ص: 234 ] فقد وضح طريقك وفاز بالفلاح حزبك وفريقك ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فقد عرفتم سبيلهم ومصيرهم فقد بان طريق الحق، وكيف ينكب من جزم سلوكه من الخلق! ونظيره قوله سبحانه: وجاءك في هذه الحق عقب ما ذكر سبحانه: لمن الملك اليوم وقوله: يوم لا تملك نفس لنفس شيئا والأمر يومئذ لله فتأمل [ذلك] والله المستعان - انتهى.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية