الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                معلومات الكتاب

                                                                                                                                بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع

                                                                                                                                الكاساني - أبو بكر مسعود بن أحمد الكاساني

                                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                                ( فصل ) :

                                                                                                                                وأما بيان ما يبطل به الإيلاء فما يبطل به الإيلاء نوعان : نوع يبطل به أصلا في حق الحكمين جميعا ، وهو البر ، والحنث ، ونوع يبطل به في حق أحد الحكمين ، وهو حكم البر ، ويبقى في حق الحكم الآخر ، وهو حكم الحنث ، أما الذي يبطل به الإيلاء في حق الحكمين جميعا فشيء واحد ، وهو الفيء بالجماع في الفرج في المدة ; لأنه يحنث به ، واليمين لا يبقى بعد الحنث ; لأن حنث اليمين نقضها ، والشيء لا يبقى مع وجود ما ينقضه وأما ما يبطل به في حق حكم البر دون الحنث فشيئان : أحدهما : الفيء بالقول عند استجماع شرائطه التي وصفناها فيبطل به الإيلاء في حق حكم البر حتى لا تبين بمضي المدة لما ذكرنا أن ترك الفيء في المدة شرط وقوع الطلاق بعد مضيها إذ هو عزيمة الطلاق ، وأنها شرط بالنص لكنه يبقى في حق حكم الحنث حتى لو فاء إليها بالقول في المدة ثم قدر على الجماع بعد المدة فجامعها تلزمه الكفارة ; لأن وجوب الكفارة معلق بالحنث .

                                                                                                                                والحنث هو فعل المحلوف عليه ، والمحلوف عليه هو الجماع في الفرج ، فلا يحصل الحنث بدونه .

                                                                                                                                والثاني الطلقات الثلاث حتى لو وقع عليها ثلاث تطليقات بالإيلاء أو طلقها ثلاثا عقيب الإيلاء فتزوجت ثم عادت إليه فمضت أربعة أشهر لم يطأها فيها لا يقع عليها شيء عند أصحابنا الثلاثة ، وعند زفر لا يبطل بها الإيلاء ، ويقع عليها الطلاق بالإيلاء أبدا بناء على أن استيفاء طلاق الملك القائم للحال يبطل اليمين ، وعندنا ، وعنده لا يبطلها وقد ذكرنا المسألة فيما تقدم .

                                                                                                                                ولو آلى منها ولم يفئ إليها حتى مضت أربعة أشهر فبانت منه بتطليقة وانقضت عدتها فتزوجت بزوج آخر ثم عادت إلى الأول عاد حكم الإيلاء بالإجماع ، لكن عند أبي حنيفة ، وأبي يوسف بثلاث تطليقات ، وعند محمد بما بقي بناء على أن الزوج الثاني يهدم الطلقة ، والطلقتين عندهما ، وعنده لا يهدم .

                                                                                                                                والمسألة قد مرت ولا يبطل بالإبانة حتى لو آلى منها ثم أبانها قبل مضي المدة ثم تزوجها فمضت المدة من غير فيء تبين بتطليقة [ ص: 179 ] أخرى بالإيلاء السابق ولو أبانها ولم يتزوجها حتى مضت المدة ، وهي في العدة يقع عليها تطليقة أخرى عندنا ، وعند زفر لا يقع وقد مرت المسألة ، وهل يبطل بمضي المدة من غير فيء فإن كان الإيلاء مطلقا أو مؤبدا بأن قال : والله لا أقربك أبدا أو قال : والله لا أقربك ، ولم يذكر الوقت فمضت أربعة أشهر من غير فيء حتى بانت بتطليقة لا يبطل الإيلاء حتى لو تزوجها فمضت أربعة أشهر أخرى منذ تزوج يقع عليها تطليقة أخرى ; لأن اليمين عقدت مطلقة أو مؤبدة ، والعارض ليس إلا البينونة ، وأثرها في زوال الملك ، وزوال الملك لا يوجب بطلان اليمين بالطلاق لما عرف أن اليمين إذا انعقدت تبقى لاحتمال الفائدة ، واحتمال الفائدة ثابت لاحتمال التزوج ; فيبقى اليمين ، إلا أنه لا بد من الملك لانعقاد المدة الثانية فإذا تزوجها عاد الملك فعاد حقها في الجماع فإذا مضت المدة الثانية من غير فيء إليها فقد منعها حقها فقد ظلمها فيقع تطليقة أخرى جزاء على ظلمه .

                                                                                                                                وكذا إذا تزوجها بعدما بانت بتطليقة ثانية ، ومضت أربعة أشهر أخرى منذ تزوجها تبين بثالثة لما قلنا ، فإن تزوجت بزوج آخر ثم تزوجها الأول فمضت أربعة أشهر لم يقربها فيها لا يقع عليها شيء عند أصحابنا الثلاثة خلافا لزفر ولو آلى منها مطلقا أو أبدا فمضت أربعة أشهر ولم يفئ إليها حتى بانت ثم لم يتزوجها حتى مضت أربعة أشهر أخرى وهي في العدة لا يقع عليها تطليقة أخرى ; لأن اليمين قد بطلت بل هي باقية لما بينا إلا أنها مبانة لا تستحق الوطء على الزوج ، فلا يصير الزوج بالامتناع عن قربانها في المدة ظالما ، ووقوع الطلاق كان لهذا المعنى ولم يوجد ، فلا يقع لكن تبقى اليمين ، حتى لو تزوجها ، ومضت المدة من غير فيء يقع ، والأصل أن المدة المنعقدة لا تبطل بالبينونة ، وإن كانت لا تنعقد على المبانة على طريق الاستئناف ولو قربها قبل أن يتزوجها فعليه الكفارة ; لأن اليمين باقية وقد وجد شرط الحنث فيحنث ولو كان الإيلاء مؤقتا إلى وقت معلوم أربعة أشهر أو أكثر فمضت المدة من غير فيء حتى وقع الطلاق لا يبقى الإيلاء ، وينتهي حتى لو قربها لا كفارة عليه .

                                                                                                                                ولو لم يقربها حتى مضت أربعة أشهر لا يقع عليها شيء ; ; لأن المؤقت إلى وقت ينتهي عند وجود الوقت ولو حلف على قربان امرأته بعتق عبد له ثم باعه سقط الإيلاء ; لأنه صار بحال لا يلزمه شيء بقربانها ثم إذا دخل في ملكه بوجه من الوجوه قبل القربان عاد حكم الإيلاء حتى لو تركها أربعة أشهر لم يقربها فيها تبين ; لأن الجزاء لا يتقيد بالملك القائم للحال كمن قال لعبده : إن دخلت الدار فأنت حر فباعه ثم اشتراه فدخل الدار أنه يعتق ولو دخل في ملكه بعد القربان لا يعود الإيلاء لبطلانه بالقربان ، وكذا إذا مات العبد بطل الإيلاء ; لأن الجزاء صار بحال لا يتصور وجوده فبطلت اليمين .

                                                                                                                                ولو قال : إن قربتك فعبدي هذان حران ، فمات أحدهما أو باع أحدهما لا يبطل الإيلاء ; لأنه يلزمه بالقربان عتق ولو ماتا جميعا بطل الإيلاء ، وكذا لو باعهما جميعا معا أو على التعاقب ولو باعهما ثم دخل أحدهما في ملكه بوجه من الوجوه قبل القربان عاد الإيلاء فيه ثم إذا دخل الآخر في ملكه عاد الإيلاء فيه من وقت دخول الأول ; لأن العائد عين الأول .

                                                                                                                                ولو قال لامرأته : أنت طالق قبل أن أقربك بشهر ، فقربها قبل تمام الشهر من وقت اليمين بطلت اليمين ولو لم يقربها حتى مضى شهر يصير موليا ; لأن معنى هذا الكلام : إذا مضى شهر لم أقربك فيه فأنت طالق إن قربتك ولو قال ذلك ، ومضى شهر لم يقربها فيه لصار موليا لما ذكرنا أن قوله " أنت طالق إن قربتك " إيلاء .

                                                                                                                                ألا ترى أنه لا يمكنه قربانها من غير شيء يلزمه ، وهو الطلاق ، وهذا حد المولي فإذا صار موليا فإن قربها بعد ذلك وقع الطلاق ; لأنه علق الطلاق بالقربان ، وإن لم يقربها حتى مضت أربعة أشهر بانت بتطليقة ; لأن هذا حكم الإيلاء في حق البر .

                                                                                                                                ولو قال : أنت طالق ثلاثا قبل أن أقربك ولم يقل " بشهر " لا يصير موليا ، ويقع الطلاق من ساعته ; لأنه أوقع الطلاق في وقت هو قبل القربان ، وكما فرغ من كلامه فقد وجد هذا الوقت فيقع ، ولو قال : " قبل أن أقربك " يصير موليا ; لأن قبل الشيء اسم لزمان متقدم عليه مطلقا ، وكما فرغ من هذه المقالة فقد وجد زمان متقدم عليه متصل به فما لم يوجد القربان لا يعرف هذا الزمان فكان هذا تعليق الطلاق بالقربان كأنه قال : إن قربتك فأنت طالق ، فإن قربها وقع الطلاق بعد القربان بلا فصل ، فإن تركها حتى مضت أربعة أشهر بانت بالإيلاء كما لو نص على التعليق بالقربان والله الموفق .

                                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                                الخدمات العلمية