الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
474 حديث ثالث لهشام بن عروة

مالك عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة أن الحارث بن هشام سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : كيف يأتيك الوحي ؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أحيانا يأتيني في مثل صلصلة الجرس ، وهو أشده علي [ ص: 113 ] فيفصم عني وقد وعيت ما قال ، وأحيانا يتمثل لي الملك رجلا فيكلمني فأعي ما يقول . قالت عائشة : ولقد رأيته ينزل عليه في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه ، وإن جبينه ليتفصد عرقا .

التالي السابق


في هذا الحديث دليل على أن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كانوا يسألونه - عليه السلام - عن كثير من المعاني ، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يجيبهم ويعلمهم ، وكانت طائفة تسأل وطائفة تحفظ وتؤدي وتبلغ حتى أكمل الله دينه والحمد لله .

وفي هذا الحديث نوعان أو ثلاثة من صفة نزول الوحي عليه وكيفية ذلك ، وقد ورد في غير ما أثر ضروب من صفة الوحي حتى الرؤيا ، فرؤيا الأنبياء وحي أيضا ، ولكن المقصد بهذا الحديث إلى نزول القرآن والله أعلم ، وقد بينا معنى هذا الحديث وشبهه في باب إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة من هذا الكتاب والحمد لله .

وأما قوله : صلصلة الجرس ، فإنه أراد في الجرس ، والصلصلة الصوت ، يقال : صلصلة الطست ، وصلصلة الجرس ، وصلصلة الفخار ، وقد روى حماد بن سلمة عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس أنه قال : كان الوحي إذا نزل سمعت الملائكة صوت مرار أو إمرار السلسلة على الصفا ، وفي حديث حنين أنهم سمعوا صلصلة بين السماء والأرض كإمرار الحديد على الطست الجديد ، وروي عن مجاهد في قول الله تعالى ( وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب ) قال : موسى حين [ ص: 114 ] كلمه الله ( أو يرسل رسولا ) قال : جبريل إلى محمد - صلى الله عليهما وسلم - وأشباهه من الرسل .

وروى ابن وهب عن يونس عن ابن شهاب أنه سئل عن هذه الآية ( وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء إنه علي حكيم ) قال : نرى هذه الآية تعد من أوحى الله إليه من البشر ، فالكلام : ما كلم الله موسى من وراء حجاب ، والوحي : ما يوحي الله إلى النبي من الهداية فيثبت الله ما أراد من وحيه في قلب النبي ، فيتكلم به النبي - صلى الله عليه وسلم - ويكتبه ، فهو كلام الله ووحيه ومنه ما يكون بين الله وبين رسله ، لا يكلم به أحد من الأنبياء أحدا من الناس ، ولكنه يكون سر غيب بين الله وبين رسله ، ومنه ما يتكلم به الأنبياء ولا يكتبونه ، ولكنهم يحدثون به الناس ويأمرونهم ببيانه ويبينون لهم أن الله أمرهم أن يبينوه للناس ويعلموهم إياه ، ومن الوحي ما يرسل الله من يشاء من ملائكته فيوحيه وحيا في قلوب من يشاء من رسله ، وقد بين لنا في كتابه أنه كان يرسل جبريل إلى محمد - عليهما السلام - ، فقال في كتابه : ( قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله ) ، وقال - عز وجل - : ( وإنه لتنزيل رب العالمين نزل به الروح الأمين على قلبك ) إلى قوله : ( بلسان عربي مبين ) .

وأما قوله : فيفصم عني ، فمعناه ينفرج عني ويذهب كما تفصم الخلخال إذا فصمته لتخرجه من الرجل ، وكل عقدة حللتها فقد فصمتها ، قال الله - عز وجل - : ( فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم ) [ ص: 115 ] وانفصام العروة أن تفك عن موضعها وأصل الفصم عند العرب أن يفك الخلخال ، ولا يبين كسره ، فإذا كسرته فقد قصمته - بالقاف - ، قال ذو الرمة :


كأنه دملج من فضة نبه في ملعب من عذارى الحي مفصوم

.




الخدمات العلمية