الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( وإلى مدين أخاهم شعيبا فقال ياقوم اعبدوا الله وارجوا اليوم الآخر ولا تعثوا في الأرض مفسدين فكذبوه فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين وعادا وثمودا وقد تبين لكم من مساكنهم وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل وكانوا مستبصرين وقارون وفرعون وهامان ولقد جاءهم موسى بالبينات فاستكبروا في الأرض وما كانوا سابقين فكلا أخذنا بذنبه فمنهم من أرسلنا عليه حاصبا ومنهم من أخذته الصيحة ومنهم من خسفنا به الأرض ومنهم من أغرقنا وما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتا وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون إن الله يعلم ما يدعون من دونه من شيء وهو العزيز الحكيم وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون وخلق الله السماوات والأرض بالحق إن في ذلك لآية للمؤمنين اتل ما أوحي إليك من الكتاب وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون ) .

( وإلى مدين ) أي : وإلى مدين أرسلنا ، أو بعثنا ، مما يتعدى بإلى . أمرهم بعبادة الله ، والإيمان بالبعث واليوم الآخر . والأمر بالرجاء أمر بفعل ما يترتب الرجاء عليه ، أقام المسبب مقام السبب . والمعنى : وافعلوا ما ترجون به الثواب من الله ، أو يكون أمرا بالرجاء على تقدير تحصيل شرطه ، وهو الإيمان بالله . وقال أبو عبيدة : ( وارجوا ) خافوا جزاء اليوم الآخر من انتقام الله منكم ; إن لم تعبدوه . وتضمن الأمر بالعبادة والرجاء أنه إن لم يفعلوا ذلك ، وقع بهم العذاب ; كذلك جاء : ( فكذبوه ) وجاءت ثمرة التكذيب ، وهي : ( فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين ) وتقدم تفسير مثل هذه الجمل . وانتصب ( وعادا وثمود ) بإضمار أهلكنا ، لدلالة فأخذتهم الرجفة عليه . وقيل : بالعطف على الضمير في ( فأخذتهم ) ، وأبعد الكسائي في عطفه على الذين [ ص: 152 ] من قوله : ( ولقد فتنا الذين من قبلهم ) . وقرأ : ثمود ، بغير تنوين ; حمزة ، وشيبة ، والحسن ، وحفص ، وباقي السبعة : بالتنوين . وقرأ ابن وثاب : " وعاد وثمود " ، بالخفض فيهما والتنوين عطفا على ( مدين ) ، أي : وأرسلنا إلى عاد وثمود . ( وقد تبين لكم ) أي : ذلك ، أي : ما وصف لكم من إهلاكهم من جهة مساكنهم ، إذا نظرتم إليها عند مروركم لها ، وكان أهل مكة يمرون عليها في أسفارهم . وقرأ الأعمش : " مساكنهم " ، بالرفع من غير " من " ، فيكون فاعلا بـ : ( تبين ) .

( وزين لهم الشيطان ) أي : بوسوسته وإغوائه ( أعمالهم ) القبيحة . ( فصدهم عن سبيل الله ) ; وهي طريق الإيمان بالله ورسله . ( وكانوا مستبصرين ) أي : في كفرهم لهم به بصر وإعجاب قاله ، ابن عباس ، ومجاهد ، والضحاك . وقيل : عقلاء ، يعلمون أن الرسالة والآيات حق ، ولكنهم كفروا عنادا ، وجحدوا بها ، واستيقنتها أنفسهم . ( وقارون ) معطوف على ما قبله ، أو منصوب بإضمار " اذكر " . ( فاستكبروا ) أي : عن الإقرار بالصانع وعبادته في الأرض ، إشارة إلى قلة عقولهم ; لأن من في الأرض يشعر بالضعف ، ومن في السماء يشعر بالقوة ، ومن في السماء لا يستكبرون عن عبادة الله ، فكيف من في الأرض ؟ ( وما كانوا سابقين ) الأمم إلى الكفر ، أي : تلك عادة الأمم مع رسلهم . والحاصب لقوم لوط ، وهي ريح عاصف فيها حصى ، وقيل : ملك كان يرميهم . والصيحة لمدين وثمود ، والخسف لقارون ، والغرق لقوم نوح وفرعون وقومه . وقال ابن عطية : ويشبه أن يدخل قوم عاد في الحاصب ; لأن تلك الريح لا بد كانت تحصبهم بأمور مؤذية ، والحاصب : هو العارض من ريح أو سحاب إذا رمي بشيء ، ومنه قول الفرزدق :


مستقبلين شمال الشأم تضربهم بحاصب كنديف القطن منثور



ومنه قول الأخطل :


ترمي العضاة بحاصب من ثلجها     حتى تبيت على العضاه جفالا



العنكبوت حيوان معروف ، ووزنه فعللوت ، ويؤنث ويذكر ، فمن تذكيره قول الشاعر :


على هطالهم منهم بيوت     كأن العنكبوت هو ابتناها

ويجمع : عناكب ، ويصغر : عنيكيب . يشبه تعالى الكفار في عبادتهم الأصنام ، وبنائهم أمورهم عليها بالعنكبوت التي تبني وتجتهد ، وأمرها كله ضعيف ، متى مسته أدنى هامة أو هامة أذهبته ، فكذلك أمر أولئك ، وسعيهم مضمحل ، لا قوة له ولا معتمد . وقال الزمخشري : الغرض تشبيه ما اتخذوه متكلا ومعتمدا في دينهم ، وتولوه من دون الله ، مما هو مثل عند الناس في الوهن وضعف القوة ، وهو نسج العنكبوت . ألا ترى إلى مقطع التشبيه ، وهو قوله : ( إن أوهن البيوت لبيت العنكبوت ) ؟ انتهى . يعني بقوله : ألا ترى إلى مقطع التشبيه بما ذكر أولا من أن الغرض تشبيه المتخذ بالبيت ، لا تشبيه المتخذ بالعنكبوت ؟ والذي يظهر ، هو تشبيه المتخذ من دون الله وليا ، بالعنكبوت المتخذة بيتا ، أي : فلا اعتماد للمتخذ على وليه من دون الله ، كما أن العنكبوت لا اعتمادها على بيتها في استظلال وسكنى ، بل لو دخلت فيه خرقته . ثم بين حال بيتها ، وأنه في غاية الوهن ، بحيث لا ينتفع به . كما أن تلك الأصنام لا تنفع ولا تجدي شيئا البتة ، وقوله : ( لو كانوا يعلمون ) ليس مرتبطا بقوله : ( وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت ) لأن كل أحد يعلم ذلك ، فلا يقال فيه : لو كانوا يعلمون ; وإنما المعنى : لو كانوا يعلمون أن هذا مثلهم ، وأن أمر دينهم بالغ من الوهن هذه الغاية لأقلعوا عنه ، وما اتخذوا الأصنام آلهة .

وقال الزمخشري : إذا صح تشبيه ما اعتمدوه في دينهم ببيت العنكبوت ، وقد صح أن أوهن البيوت بيت العنكبوت ، فقد تبين أن دينهم أوهن الأديان ، لو كانوا يعلمون ; أو أخرج الكلام بعد تصحيح التشبيه مخرج المجاز ، وكأنه قال : وإن [ ص: 153 ] أوهن ما يعتمد عليه في الدين عبادة الأوثان ، لو كانوا يعلمون . ولقائل أن يقول : مثل المشرك الذي يعبد الوثن ، بالقياس إلى المؤمن الذي يعبد الله ، مثل عنكبوت يتخذ بيتا ، بالإضافة إلى رجل بنى بيتا بآجر وجص أو نحته من صخر . فكما أن أوهن البيوت ، إذا استقريتها بيتا ، بيت العنكبوت ، كذلك أضعف الأديان ، إذا استقريتها دينا ، عبادة الأوثان ، لو كانوا يعلمون . انتهى .

وما ذكره من قوله : ولقائل أن يقول إلخ . لا يدل عليه لفظ الآية ، وإنما هو تحميل للفظ ما لا يحتمله ، كعادته في كثير من تفسيره . وقرأ أبو عمرو ، وسلام : ( يعلم ما ) ، بالإدغام ; والجمهور : بالفك ; والجمهور : " تدعون " ، بتاء الخطاب ; وأبو عمرو ، وعاصم : بخلاف ، بياء الغيبة ; وجوزوا في ( ما ) أن يكون مفعولا بـ : ( يدعون ) ، أي : يعلم الذين يدعون من دونه من جميع الأشياء ، أي : يعلم حالهم ، وأنهم لا قدرة لهم . وأن تكون نافية ، أي : لستم تدعون من دونه شيئا له بال ولا قدر ، فيصلح أن يسمى شيئا ، وأن يكون استفهاما ، كأنه قدر على جهة التوبيخ على هذا المعبود من جميع الأشياء ، وهي في هذين الوجهين مقتطعة من ( يعلم ) ، واعتراض بين يعلم وبين قوله : ( وهو العزيز الحكيم ) . وجوز أبو علي أن يكون ( ما ) استفهاما منصوبا بـ : ( يدعون ) ، و ( يعلم ) معلقة ; فالجملة في موضع نصب بها ، والمعنى : أن الله يعلم أوثانا تدعون من دونه ، أم غيرها لا يخفى عليه ذلك . والجملة تأكيد للمثل ، وإذا كانت ( ما ) نافية ، كان في الجملة زيادة على المثل ، حيث لم يجعل تعالى ما يدعونه شيئا . ( وهو العزيز الحكيم ) فيه تجهيل لهم ، حيث عبدوا ما ليس بشيء ; لأنه جماد ليس معه مصحح العلم والقدرة أصلا ، وتركوا عبادة القادر القاهر الحكيم الذي لا يفعل شيئا إلا لحكمة . ( وما يعقلها إلا العالمون ) أي : لا يعقل صحتها وحسنها وفائدتها .

وكان جهلة قريش يقولون : إن رب محمد يضرب المثل بالذباب والعنكبوت ، ويضحكون من ذلك ، وما علموا أن الأمثال والتشبيهات طرق إلى المعاني المحتجبة ، فتبرزها وتصورها للفهم ، كما صور هذا التشبيه الفرق بين حال المشرك وحال الموحد . والإشارة بقوله : ( وتلك الأمثال ) إلى هذا المثل ، وما تقدم من الأمثال في السور . وعن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلا هذه الآية فقال : " العالم من عقل عن الله فعمل بطاعته واجتنب سخطه " .

( خلق الله السماوات والأرض ) فيه تنبيه على صغر قدر الأوثان التي عبدوها . ومعنى ( بالحق ) بالواجب الثابت ، لا بالعبث واللعب ، إذ جعلها مساكن عباده ، وعبرة ودلائل على عظيم قدرته وباهر حكمته . والظاهر أن الصلاة هي المعهودة ، والمعنى : من شأنها أنها إذا أديت على ما يجب من فروضها وسننها والخشوع فيها ، والتدبر لما يتلو فيها ، وتقدير المثول بين يدي الله تعالى ، أن ( تنهى عن الفحشاء والمنكر ) . وقال ابن عباس ، والكلبي ، وابن جريج ، وحماد بن أبي سليمان : تنهى ما دام المصلي فيها . وقال ابن عمر : الصلاة هنا القرآن . وقال ابن بحر : الصلاة : الدعاء ، أي : أقم الدعاء إلى أمر الله ، وأما من تراه من المصلين يتعاطى المعاصي ، فإن صلاته تلك ليست بالوصف الذي تقدم .

وفي الحديث أن فتى من الأنصار كان يصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم ، ولا يدع شيئا من الفواحش والسرقة إلا ارتكبه ، فقيل ذلك للنبي ، فقال : " إن صلاته تنهاه " . فلم يلبث أن تاب وصلحت حاله ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ألم أقل لكم ؟ " ولا يدل اللفظ على أن كل صلاة تنهى ، بل المعنى ، أنه يوجد ذلك فيها ، ولا يكون على العموم . كما تقول : فلان يأمر بالمعروف ، أي : من شأنه ذلك ، ولا يلزم منه أن كل معروف يأمر به . والظاهر أن ( أكبر ) أفعل تفضيل . فقال عبد الله ، وسلمان ، وأبو الدرداء ، وابن عباس ، وأبو قرة : معناه ولذكر الله إياكم أكبر من ذكركم إياه . وقال قتادة ، وابن زيد : أكبر من كل شيء ; وقيل : ولذكر الله في الصلاة أكبر منه خارج الصلاة ، أي : أكبر ثوابا ; وقيل : أكبر من سائر أركان الصلاة ; وقيل : ولذكر الله نهيه أكبر من نهي الصلاة ; وقيل : أكبر من كل [ ص: 154 ] العبادة . وقال ابن عطية : وعندي أن المعنى : ولذكر الله أكبر على الإطلاق ، أي : هو الذي ينهى عن الفحشاء والمنكر ، والجزء الذي منه في الصلاة ينهى ، كما ينهى في غير الصلاة ; لأن الانتهاء لا يكون إلا من ذاكر الله مراقبه ، وثواب ذلك الذاكر أن يذكره الله في ملأ خير من ملئه ، والحركات التي في الصلاة لا تأثير لها في النهي ، والذكر النافع هو مع العلم وإقبال القلب وتفرغه إلا من الله . وأما ما لا يجاوز اللسان ففي رتبة أخرى . وقال الزمخشري : يريد والصلاة أكبر من غيرها من الطاعات ، وسماها بذكر الله ، كما قال : ( فاسعوا إلى ذكر الله ) وإنما قال : ( ولذكر الله ) لتستقل بالتعليل ، كأنه قال : والصلاة أكبر ; لأنها ذكر الله مما تصنعون من الخير والشر فيجازيكم ، وفيه وعيد وحث على المراقبة .

التالي السابق


الخدمات العلمية