الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                            صفحة جزء
                                                            باب الأضحية عن عقبة بن عامر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطاه غنما فقسمها على أصحابه ضحايا فبقي عتود منها فذكره لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ضح به وفي رواية للبخاري (فصارت لعقبة جذعة) وفي رواية لمسلم فأصابني جذع وزاد البيهقي في رواية ولا رخصة لأحد فيها بعدك ولأبي داود من حديث زيد بن خالد فأعطاني عتودا جذعا فرجعت به إليه فقلت إنه جذع، قال ضح به فضحيت به وللشيخين من حديث البراء في قصة ذبح خاله أبي بردة بن نيار قبل الصلاة، وعندي جذعة خير من مسنة وقال البخاري في رواية من مسنين قال اذبحها ولن تجزئ عن أحد بعدك وفي رواية لهما إن عندي جذعة من المعز وقال البخاري داجنا جذعة من المعز قال اذبحها ولم تصلح لغيرك وله من حديث أنس فقام رجل فقال إن هذا يوم يشتهى فيه اللحم وذكر جيرانه، وعندي جذعة خير من شاتي لحم فرخص له في ذلك فلا أدري أبلغت الرخصة من سواه أم لا .

                                                            [ ص: 188 ]

                                                            التالي السابق


                                                            [ ص: 188 ] باب الأضحية

                                                            (الحديث الأول)

                                                            عن عقبة بن عامر أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاه غنما فقسمها على أصحابه ضحايا فبقي عتود منها فذكره للنبي صلى الله عليه وسلم فقال ضح به

                                                            (فيه) فوائد:

                                                            (الأولى) أخرجه الأئمة الستة خلا أبا داود من هذا الوجه من رواية الليث بن سعد عن يزيد بن أبي حبيب عن أبي الخير عن عقبة وأخرجه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي من رواية يحيى بن أبي كثير عن بعجة بالباء الموحدة بن عبد الله الجهني عن عقبة بن عامر قال قسم النبي صلى الله عليه وسلم بين أصحابه ضحايا فصارت لعقبة جذعة فقلت يا رسول الله صارت لي جذعة قال ضح بها . لفظ البخاري ولفظ مسلم فأصابني جذع وروى النسائي من رواية معاذ بن عبد الله بن خبيب عن عقبة بن عامر قال ضحينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بجذاع من الضأن . وروى أبو الشيخ بن حيان في الأضاحي من رواية معاذ بن عبد الله بن خبيب قال سألت سعيد بن المسيب عن الجذع من الضأن يضحى به فقال سعيد ما كانت سنة الجذع من الضأن إلا فيكم سأل عقبة بن عامر رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمره أن يضحي [ ص: 189 ] به وذكر ابن حزم أن معاذا هذا مجهول وليس كما قال فقد وثقه يحيى بن معين وأبو داود وابن حبان لكن قال والدي رحمه الله الظاهر انقطاع روايته عن عقبة بدليل الرواية الأخرى قال والرواية الأخرى مرسلة وذكر ابن حزم في المحلى من طريق وكيع عن أسامة بن زيد عن معاذ بن عبد الله بن خبيب عن سعيد بن المسيب عن عقبة سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الجذع من الضأن فقال ضح به . ثم قال أسامة بن زيد ضعيف جدا.

                                                            (الثانية) بوب البخاري على هذا الحديث (باب قسمة الغنم والعدل فيها) وهذا يدل على أنه فهم أن هذه القسمة هي القسمة المعهودة التي يعتبر فيها تسوية الأجزاء وما أظن الأمر كذلك وإنما أمره عليه الصلاة والسلام بتفرقة غنم على أصحابه فأما أن يكون عليه الصلاة والسلام عين ما يعطيه لكل واحد منهم وإما أن يكون وكل ذلك إلى رأيه من غير تقييد عليه بالتسوية فإن في ذلك عسرا وحرجا والغنم لا يتأتى فيها قسمة الأجزاء ولا تقسم إلا بالتعديل ويحتاج ذلك في الغالب إلى رد لأن استواء قسمتها على التحرير بعيد والظاهر أن هذه الغنم كانت للنبي صلى الله عليه وسلم وقسمها بينهم على سبيل التبرع ولهذا قال ابن بطال فيه إنه تجوز الضحايا بما يهدى إليك [ ص: 190 ] وبما لم تشتره بخلاف ما يعتقده عامة الناس لكنه قال في أول كلامه إن كان قسمها بين الأغنياء فكانت من الفيء أو ما يجري مجراه مما يجوز أخذها للأغنياء وإن كان إنما قسمها بين فقرائهم خاصة فكانت من الصدقة انتهى. فجزم بأنها من الأموال العامة أعطيت لمستحقها لكنه تردد بين كونها من الفيء ونحوه وكونها من الصدقة وهذا ينافي كونها هدية لأن الهدية تبرع وأخذ الإنسان ما يستحقه من الفيء أو الزكاة ليس تبرعا من معطيه ويوافق كلامه الذي حكيته، ثانيا، كلام أبي العباس القرطبي حيث قال فيه إن الإمام ينبغي له أن يفرق الضحايا على من لا يقدر عليها من بيت مال المسلمين انتهى.

                                                            (الثالثة) وبوب عليه البخاري أيضا ( وكالة الشريك الشريك في القسمة وغيرها) وما عرفت وجه هذا الاستنباط ومن أين لعقبة بن عامر شركة في هذه الغنم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم .

                                                            (الرابعة) ( الضحايا ) جمع ضحية قال الجوهري قال الأصمعي فيها أربع لغات أضحية بضم الهمزة وأضحية بكسرها وجمعها أضاحي بتشديد الياء وتخفيفها واللغة الثالثة ضحية وجمعها ضحايا والرابعة أضحاة بفتح الهمزة والجمع أضحى كأرطاة وأرطى وبها سمي يوم الأضحى قال القاضي عياض وقيل سميت بذلك لأنها تفعل في الضحى وهو ارتفاع النهار.

                                                            (الخامسة) قال أهل اللغة العتود بفتح العين المهملة وضم التاء المثناة من فوق وإسكان الواو وآخره دال مهملة من أولاد المعز خاصة وهو ما رعى وقوي قال الجوهري وصاحب النهاية وهو ما بلغ سنة وجمعه أعتدة وعدان بإدغام التاء في الدال وأصله عتدان وقال في المشارق أصل عتدان عددان قال وهو من ولد المعز إذا بلغ السفاد وقيل إذا قوي وشب وقيل إذا استكرش وبعضه يقرب من بعض [ ص: 191 ]

                                                            (السادسة) استدل به على أنه يجزئ في الأضحية الجذع من المعز وإذا جاز، ذلك من المعز فمن الضأن أولى وقد دلت الرواية الأخرى من رواية عقبة على الضأن صريحا وقد اختلف العلماء في هذه المسألة على ثلاثة أقوال: .

                                                            (أحدها) التفريق بين النوعين فيجزئ الجذع من الضأن ولا يجزئ الجذع من المعز وهذا هو المشهور من مذاهب العلماء وهو مذهب الأئمة الأربعة ونقل القاضي عياض وغيره الإجماع عليه وحكى الترمذي إجزاء الجذع من الضأن عن أهل العلم من الصحابة وغيرهم.

                                                            (القول الثاني) منع الجذع مطلقا ضأنا كان أو معزا ذهب إليه ابن حزم الظاهري وحكاه عن طائفة من السلف وأطنب في الرد على من فرق في ذلك بين الضأن والمعز وحكاه العبدري وغيره من أصحابنا عن الزهري وحكاه ابن المنذر في الإشراف والعمراني في البيان عن ابن عمر .

                                                            (القول الثالث) تجويز الجذع مطلقا ولو من المعز حكاه العبدري عن الأوزاعي وحكاه صاحب البيان عن عطاء بن أبي رباح وحكاه ابن حزم عن عقبة بن عامر وزيد بن خالد وابن عمر وأم سلمة . وحكاه الرافعي وجها عند الشافعية قال النووي وهو شاذ ضعيف بل غلط انتهى وهذا الحديث حجة له فإنه صريح في تجويز الجذع من المعز والضأن أولى منه بذلك كما قدمته وقال من منع مطلقا هذا رخصة والتجويز خاص بعقبة أجاب به البيهقي وغيره ويدل له ما رواه البيهقي بإسناد صحيح في هذا الحديث أنه عليه الصلاة والسلام قال لعقبة ضح بها أنت ولا رخصة لأحد فيها بعدك .

                                                            (فإن قلت) ففي الصحيحين من حديث البراء بن عازب أنه عليه الصلاة والسلام أذن لأبي بردة بن نيار في التضحية بجذعة من المعز وقال لن تجزئ عن أحد بعدك (قلت) كلا الحديثين عام مخصوص وإجزاء الجذعة من المعز خاص بعقبة بن عامر وأبي بردة بن نيار خال البراء

                                                            وفي الصحيحين عن أنس قال قال النبي صلى الله عليه وسلم يوم النحر من كان ذبح قبل الصلاة فليعد فقام رجل فقال إن هذا يوم يشتهى فيه اللحم وذكر جيرانه وعندي جذعة خير من شاتي لحم، فرخص له في ذلك فلا أدري أبلغت الرخصة من سواه أم لا .

                                                            وعزو الشيخ رحمه الله هذه الرواية للبخاري فقط فيه نظر، ويحتمل أن يكون هذا [ ص: 192 ] الرجل هو أبو بردة لا شخص ثالث وكذا الحديث الذي رواه ابن ماجه من حديث أبي زيد الأنصاري أنه عليه الصلاة والسلام قال لرجل من الأنصار اذبحها ولن تجزئ جذعة عن أحد بعدك .

                                                            يحتمل أنه أبو بردة قال النووي هذا الشك بالنسبة إلى علم أنس رضي الله عنه وقد صرح النبي صلى الله عليه وسلم في حديث البراء بأنها لا تبلغ غيره ولا تجزئ أحدا بعده انتهى على أنه قد وردت الرخصة لغيرهما أيضا فروى أبو داود في سننه عن زيد بن خالد أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاه عتودا جذعا وقال ضح به . وروى الطبراني في معجمه الأوسط عن ابن عباس أنه عليه الصلاة والسلام أعطى سعد بن أبي وقاص جذعا من المعز فأمره أن يضحي به . وروى أبو يعلى الموصلي من حديث أبي هريرة أن رجلا قال يا رسول الله هذا جذع من الضأن مهزول خسيس وهذا جذع من المعز سمين سيد وهو خيرهما أفأضحي به قال ضح به فإن لله الخير

                                                            فيكون الأصل منع إجزاء الجذع من المعز إلا لمن صح الترخيص له فيه ويحمل قوله ولن يجزئ عن أحد بعدك أي من غير من رخص له في ذلك جمعا بين الأحاديث.

                                                            وقال أبو العباس القرطبي قال علماؤنا: إن حديث عقبة منسوخ بحديث أبي بردة ثم قال ويمكن في حديث عقبة تأويلان غير النسخ:

                                                            (أحدهما) أن الجذع المذكور فيه من الضأن وأطلق عليه العتود لأنه في سنه وقوته.

                                                            (ثانيهما) أنه كان قد أسنى وتجوز في تسميته عتودا وقد حكى القاضي عن أهل اللغة أن العتود الجدي الذي بلغ السفاد وقال ابن الأعرابي المعز لا تضرب فحولها إلا بعد أن تثني هذا معنى كلامه وأجوبته الثلاثة مردودة.

                                                            والصواب ما قدمته والله أعلم.

                                                            وتمسك المفرقون في منع الجذع من المعز بما تقدم وفي إجازة الجذع من الضأن بما تقدم في بعض طرق حديث عقبة وبما رواه مسلم في صحيحه عن جابر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تذبحوا إلا مسنة إلا أن يعسر عليكم فتذبحوا جذعة من الضأن . وروى الترمذي من حديث أبي كباش عن أبي هريرة قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول نعم أو نعمت الأضحية الجذع من الضأن . وقال حديث غريب

                                                            وقد روي عن أبي هريرة موقوفا وحكى أبو العباس القرطبي عن الترمذي أنه حسنه وليس كذلك وروى أحمد في مسنده [ ص: 193 ] من رواية أبي ثفال المري عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الجذع من الضأن خير من السيد من المعز . ورواه أبو بكر البزار والحاكم في مستدركه من رواية عطاء بن يسار عن أبي هريرة أن جبرائيل عليه السلام قال ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم. وصحح الحاكم إسناده وضعفه البزار برواية إسحاق الحنيني وروى ابن ماجه من رواية أم بلال بنت هلال عن أبيها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يجوز الجذع من الضأن أضحية .

                                                            وروى أبو داود وابن ماجه من حديث رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يقال له مجاشع من بني سليم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إن الجذع يوفي بما يوفي منه الثني . ورواه النسائي إلا أنه قال رجل من مزينة ولم يسمه

                                                            (فإن قلت) ففي حديث جابر وهو أصح هذه الأحاديث إن إجزاء الجذع من الضأن إنما يكون عند تعسر المسنة والجمهور المجوزون للجذع من الضأن لا يقولون به (قلت) قال النووي في شرح مسلم قال الجمهور هذا الحديث محمول على الاستحباب والأفضل، وتقديره يستحب لكم أن لا تذبحوا إلا مسنة فإن عجزتم فجذعة من الضأن، وليس فيه تصريح بمنع جذعة الضأن وأنها لا تجزئ بحال وقد أجمعت الأمة على أنه ليس على ظاهره لأن الجمهور يجوزون الجذع من الضأن مع وجود غيره وعدمه وابن عمر والزهري يمنعانه مع وجود غيره وعدمه فتعين تأويل الحديث على ما ذكرناه من الاستحباب .

                                                            (السابعة) إن قلت كيف الجمع بين حديث عقبة من رواية أبي الخير عنه ومن رواية بعجة عنه (قلت) أما قوله في رواية بعجة جذعة أو جذع فلا ينافي قوله في رواية أبي الخير عتود لأن رواية أبي الخير بينت أن هذه الجذعة كانت من المعز فإن العتود مختص بالمعز كما تقدم وأما قوله في رواية بعجة أن النبي صلى الله عليه وسلم قسم ضحايا فيحتمل أنه نسب القسم إليه لأمره عقبة بذلك ويحتمل أن قسم عقبة إنما هو تنفيذ لقسم النبي صلى الله عليه وسلم فيكون النبي صلى الله عليه وسلم عين ما يعطاه كل واحد وتولى عقبة تفرقة ذلك وأما رواية معاذ بن عبد الله بن خبيب في التصريح بالضأن فلعلها قصة أخرى والله أعلم .



                                                            (الثامنة) اختلف العلماء في سن الجذع المجزئ في [ ص: 194 ] الأضحية إما من الضأن على قول الجمهور أو من المعز على قول بعضهم، على أقوال:

                                                            (أحدها) أنه ما أكمل سنة ودخل في الثانية هذا هو الأشهر عند أهل اللغة وحكاه ابن حزم عن الكسائي والأصمعي وأبي عبيد وابن قتيبة قال وقاله العديس الكلابي وأبو فقعس الأسدي وهما ثقتان في اللغة وهذا هو الأصح عند أصحاب الشافعي .

                                                            (والثاني) ستة أشهر وهو مذهب الحنفية والحنابلة وقال صاحب الهداية أنه كذلك في مذهب الفقهاء.

                                                            (الثالث) سبعة أشهر حكاه صاحب الهداية عن الزعفراني .

                                                            (الرابع) ستة أشهر أو سبعة حكاه الترمذي عن وكيع بن الجراح .

                                                            (الخامس) ثمانية أشهر.

                                                            (السادس) عشرة أشهر.

                                                            (السابع) التفرقة بين ما تولد بين شاتين فيصير جذعا ابن ستة أشهر وبين ما تولد بين هرمين فلا يصير جذعا إلا إذا صار ابن ثمانية أشهر حكاه القاضي عياض .

                                                            (الثامن) أنه لا يجزئ الجذع من الضأن حتى يكون عظيما حكاه القاضي أبو بكر بن العربي وقال إنه باطل لكنه مذهب الحنفية قال صاحب الهداية قالوا وهذا إذا كانت عظيمة بحيث لو خلطت بالثنيات تشتبه على الناظر من بعيد وقال أبو الحسن العبادي من الشافعية لو أجذع قبل تمام السنة أي سقطت أسنانه أجزأ في الأضحية كما لو تمت السنة قبل أن يجذع ويكون ذلك كالبلوغ بالسن أو الاحتلام فإنه يكفي فيه أسبقهما وهكذا قاله البغوي فقال الجذعة ما استكملت سنة أو أجذعت قبلها فإن لم يكن هذا قيدا على الأصح عند الشافعية فهو قول (تاسع) وقد حكاه الرافعي والنووي وفهم من كلامهما أنه قيد والله أعلم .




                                                            الخدمات العلمية