الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                                                                                                          1413 - مسألة : فإن بيع شيء من الغائبات بغير صفة ولم يكن مما عرفه البائع لا برؤية ولا بصفة من يصدق ممن رأى ما باعه ولا مما عرفه للمشتري برؤية ، أو بصفة من يصدق ، فالبيع فاسد مفسوخ أبدا ، لا خيار في جوازه أصلا .

                                                                                                                                                                                          ويجوز ابتياع المرء ما وصفه له البائع صدقه - أو لم يصدقه . [ ص: 222 ] ويجوز بيع المرء ما وصفه له المشتري - صدقه أو لم يصدقه - فإن وجد المبيع بتلك الصفة ، فالمبيع لازم ، وإن وجد بخلافها ، فالمبيع باطل ولا بد .

                                                                                                                                                                                          وأجاز الحنفيون بيع العين المجهولة غير الموصوفة ، وجعلوا فيها خيار الرؤية ، كما ذكرنا - وقولنا في أنه لا يجوز إلا بمعرفة وصفه : هو قول مالك في بعض ذلك ، أو قول أبي سليمان ، وغيرهما .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد : واحتج الحنفيون لقولهم بالخبر الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه { نهى عن بيع الحب قبل أن يشتد } ، قالوا : ففي هذا إباحة بيعه بعد اشتداده وهو في أكمامه بعد لم يره أحد ولا تدرى صفته .

                                                                                                                                                                                          قال علي : وهذا مما موهوا به وأوهموا أنه حجة لهم ، وليس كذلك ; لأنه ليس في هذا الخبر إلا النهي عن بيعه قبل اشتداده فقط ، وليس فيه إباحة بيعه بعد اشتداده ، ولا المنع من ذلك ؟ فاعجبوا لجرأة هؤلاء القوم على الله تعالى بالباطل ; إذ احتجوا بهذا الخبر ما ليس فيه منه شيء ، وخالفوه فيما جاء فيه نص ، فهم يجيزون بيع الحب قبل أن يشتد على شرط القطع ، فيا لضلال هذه الطريقة قال أبو محمد : وعجب آخر - : أنهم كذبوا في هذا الخبر فأقحموا فيه ما ليس فيه منه نص ولا أثر من إباحة بيع الحب بعد أن يشتد ، ثم لم يقنعوا بهذه الطامة حتى أوجبوا بهذا الخبر ما ليس فيه له ذكر ولا إشارة إليه بوجه من الوجوه : من بيع الغائبات التي لا تعرف صفاتها ، ولا عرفها البائع ، ولا المشتري ، ولا وصفها لهما أحد ، ثم لم يلبثوا أن نقضوا ذلك ككرة الطرف فحرموا بيع لحم الكبش قبل ذبحه ، والنوى دون التمر قبل أكله ، وبيع الزيت في الزيتون قبل عصره ، وبيع الألبان في الضروع - واحتجوا في ذلك بأنه كله مجهول لا تدرى صفته ، وهذا موق وتلاعب بالدين - ونعوذ بالله من مثله .

                                                                                                                                                                                          قال علي : ونحن نجيز بيع الحب بعد اشتداده كما هو في أكمامه بأكمامه ، وبيع الكبش حيا ومذبوحا كله لحمه مع جلده ، وبيع الشاة بما في ضرعها من اللبن ، وبيع [ ص: 223 ] النوى مع التمر ; لأنه كله ظاهر مرئي - ولا يحل بيعه دون أكمامه ; لأنه مجهول لا يدري أحد صفته ، ولا بيع اللحم دون الجلد ، ولا النوى دون التمر ، ولا اللبن دون الشاة كذلك .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد : ولا يخلو بيع كل ذلك قبل ظهوره من أن يكون إخراجه مشترطا على البائع ، أو على المشتري ، أو عليهما ، أو على غيرهما ، أو لا على أحد ، فإن كان مشترطا على البائع ، أو على المشتري : فهو بيع بثمن مجهول وإجارة بثمن مجهول - وهذا باطل ; لأن البيع لا يحل - بنص القرآن - إلا بالتراضي ، والتراضي بضرورة الحس لا يمكن أن يكون إلا بمعلوم لا بمجهول ، فكذلك إن كان مشترطا عليهما ، أو على غيرهما .

                                                                                                                                                                                          وأيضا : فإن كل ذلك شرط ليس في كتاب الله تعالى فهو باطل ، فإن لم يشترط على أحد فهو أكل مال بالباطل حقا ; لأنه لا يصل إلى أخذ ما اشتراه ؟ قال علي : والبرهان على بطلان بيع ما لم يعرف برؤية ولا بصفة : صحة { نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الغرر } وهذا عين الغرر ; لأنه لا يدري ما اشترى أو باع .

                                                                                                                                                                                          وقول الله ; تعالى : { إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم } . ولا يمكن أصلا وقوع التراضي على ما لا يدرى قدره ولا صفاته ، وإنما فرقنا بين صفة البائع للمشتري ، أو المشتري للبائع - صدق أحدهما الآخر أو لم يصدقه - فأجزنا البيع بذلك وبين صفة غيرهما ، فلم يجزه إلا ممن يصدقه الموصوف له ، فلأن صفة البائع للمشتري ، أو صفة المشتري للبائع عليها وقع البيع ، وبها تراضيا ، فإن وجد المبيع كذلك علمنا أن البيع وقع صحيحا على حق وعلى ما يصح به التراضي وإلا فلا .

                                                                                                                                                                                          وأما إذا وصفه لهما غيرهما ممن لا يصدقه الموصوف له فإن البيع ههنا لم يقع على صفة أصلا ، فوقع العقد على مجهول من أحدهما أو من كليهما - وهذا حرام لا يحل . فإن وصفه من صدقه الموصوف له ، فالتصديق يوجب العلم ، فإنما اشترى ما علم ، أو باع البائع ما علم ، فالعقد صحيح ، والتراضي صحيح .

                                                                                                                                                                                          فإن وجد المبيع كذلك علم أن البيع انعقد على صحة ، وإن وجد بخلاف ذلك [ ص: 224 ] علم أن البيع لم ينعقد على صحة ، كما لو وجده قد استحال عما عرفه عليه ولا فرق - وبالله تعالى التوفيق .

                                                                                                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                                                                                                          الخدمات العلمية