الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قال قائل منهم لا تقتلوا يوسف وألقوه في غيابات الجب يلتقطه بعض السيارة إن كنتم فاعلين

فصل جملة قال قائل جار على طريقة المقاولات والمحاورات ، كما تقدم في قوله - تعالى : قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها في سورة البقرة .

وهذا القائل أحد الإخوة ولذلك وصف بأنه منهم .

والعدول عن اسمه العلم إلى التنكير والوصفية لعدم الجدوى في معرفة شخصه وإنما المهم أنه من جماعتهم ، وتجنبا لما في اسمه العلم من الثقل [ ص: 225 ] اللفظي الذي لا داعي إلى ارتكابه . قيل : إنه ( يهوذا ) وقيل ( شمعون ) وقيل ( روبين ) ، والذي في سفر التكوين من التوراة أنه ( راوبين ) صدهم عن قتله وأن ( يهوذا ) دل عليه السيارة كما في الإصحاح 37 . وعادة القرآن أن لا يذكر إلا اسم المقصود من القصة دون أسماء الذين شملتهم ، مثل قوله : وقال رجل مؤمن من آل فرعون .

والإلقاء : الرمي .

والغيابات : جمع غيابة ، وهي ما غاب عن البصر من شيء . فيقال : غيابة الجب وغيابة القبر والمراد قعر الجب .

والجب : البئر التي تحفر ولا تطوى .

وقرأ نافع ، وأبو جعفر " غيابات " بالجمع . ومعناه جهات تلك الغيابة ، أو يجعل الجمع للمبالغة في ماهية الاسم ، كقوله - تعالى : أو كظلمات في بحر لجي وقرأ الباقون في غيابة الجب بالإفراد .

والتعريف في الجب تعريف العهد الذهني ، أي في غيابة جب من الجباب مثل قولهم : ادخل السوق . وهو في المعنى كالنكرة .

فلعلهم كانوا قد عهدوا جبابا كائنة على أبعاد متناسبة في طرق أسفارهم يأوون إلى قربها في مراحلهم لسقي رواحلهم وشربهم ، وقد توخوا أن تكون طرائقهم عليها ، وأحسب أنها كانت ينصب إليها ماء السيول ، وأنها لم تكن بعيدة القعر حيث علموا أن إلقاءه في الجب لا يهشم عظامه ولا ماء فيه فيغرقه .

و ( يلتقطه ) جواب الأمر في قوله : وألقوه . والتقدير : إن تلقوه يلتقطه . والمقصود من التسبب الذي يفيده جواب الأمر إظهار أن ما أشار به [ ص: 226 ] القائل من إلقاء يوسف - عليه السلام - في غيابة جب هو أمثل مما أشار به الآخرون من قتله أو تركه بفيفاء مهلكة لأنه يحصل به إبعاد يوسف - عليه السلام - عن أبيه إبعادا لا يرجى بعده تلاقيهما دون إلحاق ضر الإعدام بيوسف - عليه السلام - ؛ فإن التقاط السيارة إياه أبقى له وأدخل في الغرض من المقصود لهم وهو إبعاده ؛ لأنه إذا التقطه السيارة أخذوه عندهم أو باعوه فزاد بعدا على بعد .

والالتقاط : تناول شيء من الأرض أو الطريق ، واستعير لأخذ شيء مضاع .

والسيارة : الجماعة الموصوفة بحالة السير وكثرته ، فتأنيثه لتأويله بالجماعة التي تسير مثل الفلاحة والبحارة .

والتعريف فيه تعريف العهد الذهني لأنهم علموا أن الطريق لا تخلو من قوافل بين الشام ومصر للتجارة والميرة .

وجملة إن كنتم فاعلين شرط حذف جوابه لدلالة وألقوه ، أي إن كنتم فاعلين إبعاده عن أبيه فألقوه في غيابات الجب ولا تقتلوه .

وفيه تعريض بزيادة التريث فيما أضمروه لعلهم يرون الرجوع عنه أولى من تنفيذه ، ولذلك جاء في شرطه بحرف الشرط وهو ( إن ) إيماء إلى أنه لا ينبغي الجزم به ، فكان هذا القائل أمثل الإخوة رأيا وأقربهم إلى التقوى ، وقد علموا أن السيارة يقصدون إلى جميع الجباب للاستقاء ؛ لأنها كانت محتفرة على مسافات مراحل السفر . وفي هذا الرأي عبرة في الاقتصاد من الانتقام والاكتفاء بما يحصل به الغرض دون إفراط .

التالي السابق


الخدمات العلمية