الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون وما لهم ألا يعذبهم الله وهم يصدون عن المسجد الحرام وما كانوا أولياءه إن أولياؤه إلا المتقون ولكن أكثرهم لا يعلمون وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون بعد أن بين تعالى مكر قريش بالنبي صلى الله عليه وسلم بين ما يدل على أن سببه الجحود والعناد فقال : وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم في صحيح البخاري أن قائل هذا أبو جهل . قال الحافظ في شرحه في الفتح : الظاهر أنه أبو جهل ، وإن كان هذا القول نسب إلى جماعة ، فلعله بدأ به ورضي [ ص: 545 ] الباقون فنسب إليهم ، وقد روى الطبراني من طريق ابن عباس أن قائل ذلك هو النضر بن الحارث ، قال : فأنزل الله سأل سائل بعذاب واقع ( 70 : 1 ) وكذا قال مجاهد وعطاء والسدي ، ولا ينافي ذلك ما في الصحيح; لاحتمال أن يكونا قالاه ، ولكن نسبته إلى أبي جهل أولى ، وعن قتادة قال : قال ذلك سفهة هذه الأمة وجهلتها . اهـ . وقال القسطلاني في شرحه له : وروي أنه النضر بن الحارث لعنه الله لما قال : إن هذا إلا أساطير الأولين قال النبي صلى الله عليه وسلم : " ويلك ، إنه كلام الله " فقال هو وأبو جهل : اللهم إن كان هذا إلخ ، وإسناده إلى الجمع إسناد ما فعله رئيس القوم إليهم اهـ .

                          والمعنى : اللهم إن كان هذا القرآن ، وما يدعو إليه هو الحق منزلا من عندك; ليدين به عبادك كما يدعي محمد صلى الله عليه وسلم فافعل بنا كذا وكذا - أي أنهم لا يتبعونه ، وإن كان هو الحق المنزل من عند الله ; لأنه نزل على محمد بن عبد الله الذي يلقبونه بابن أبي كبشة ، بل يفضلون الهلاك بحجارة يرجمون بها من السماء أو بعذاب أليم آخر يأخذهم على اتباعه ، ومن هذا الدعاء علم أن كفرهم عناد وكبرياء ، وعتو وعلو في الأرض ، لا لأن ما يدعوهم إليه باطل أو قبيح أو ضار ، وروي أن معاوية قال لرجل من سبأ " ما أجهل قومك حين ملكوا عليهم امرأة ؟ فقال : أجهل من قومي قومك حين قالوا : اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء ولم يقولوا فاهدنا له " اهـ . وما يحكيه القرآن من أقوال المشركين وغيرهم قد يكون بالمعنى دون نص اللفظ ، كما هو المعتاد بين الناس ، وقد يكون نظمه مع أدائه للمعنى بدون إخلال مما يعجز المحكي عنهم عن مثله ، وقد يتعين هذا في الكلام الطويل الذي يتحقق بمثل الإعجاز .

                          قال تعالى ردا عليهم : وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم أي: وما كان من شأن الله تعالى وسنته ، ولا من مقتضى رحمته ولا حكمته ، أن يعذبهم وأنت أيها الرسول فيهم ، وهو إنما أرسلك رحمة للعالمين ، ونعمة لا عذابا ونقمة ، بل لم يكن من سنته أيضا أن يعذب أمثالهم من مكذبي الرسل وهم فيهم ، بل كان يخرجهم منهم أولا كما قال ابن عباس وما كان الله معذبهم هذا النوع من العذاب السماوي الذي عذب بمثله الأمم فاستأصلهم أو مطلقا وهم يستغفرون أي: في حال هم يتلبسون فيها باستغفاره تعالى بالاستمرار ، روى الشيخان من حديث أنس قال أبو جهل اللهم إن كان هذا هو الحق - الآية - فنزلت : وما كان الله ليعذبهم إلى قوله : وما لهم ألا يعذبهم الله الآية . قال الحافظ في شرح الحديث من الفتح : روى ابن جرير من طريق زيد بن رومان أنهم قالوا ذلك ، ثم لما أمسوا ندموا فقالوا : غفرانك اللهم ، فأنزل الله : وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون وروى ابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس أن معنى قوله : وهم يستغفرون [ ص: 546 ] أي من سبق له من الله أن يؤمن . وقيل : المراد من كان بين أظهرهم حينئذ من المؤمنين ، قاله الضحاك وأبو مالك ، ويؤيده ما أخرجه الطبري من طريق ابن أبزى قال : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة فأنزل الله : وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم ثم خرج إلى المدينة فأنزل الله : وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون وكان من بقي من المسلمين بمكة يستغفرون فلما خرجوا أنزل الله : وما لهم ألا يعذبهم الله وهم يصدون عن المسجد الحرام الآية . فأذن الله في فتح مكة ، فهو العذاب الذي توعدهم الله تعالى " وروى الترمذي من حديث أبي موسى في رفعه قال : أنزل الله على أمتي أمانين فذكر هذه الآية قال : " فإذا مضيت تركت فيهم الاستغفار " وهو يقوي القول الأول ، والحمل عليه أولى ، وأن العذاب حل بهم لما تركوا الندم على ما وقع منهم ، وبالغوا في معاندة المسلمين ومحاربتهم ، وصدهم عن المسجد الحرام والله أعلم اهـ ما أورده الحافظ ، ويرد عليه أن الله عذبهم بالقحط لما دعا به عليهم النبي صلى الله عليه وسلم كما ثبت في الصحاح ، حتى أكلوا الميتة والعظام ، ولم يرتفع إلا بدعائه صلى الله عليه وسلم ، ولا يندفع إلا بتفسير العذاب الممتنع مع وجود الرسول والاستغفار بعذاب الاستئصال . ويؤيده أن ما عذب الله به قوم فرعون كان مع وجود موسى عليه السلام فيهم كما تقدم في سورة الأعراف والآيات نزلت مع السورة بالمدينة .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية