الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 608 ] بسم الله الرحمن الرحيم

تفسير سورة الأحقاف

هذه السورة مكية، لم يختلف فيها إلا في آيتين، قوله تعالى: قل أرأيتم إن كان من عند الله الآية، وقوله تعالى: فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل الآية، فقال بعض المفسرين: هاتان آيتان مدنيتان وضعتا في سورة مكية.

قوله عز وجل:

حم تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم ما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمى والذين كفروا عما أنذروا معرضون قل أرأيتم ما تدعون من دون الله أروني ماذا خلقوا من الأرض أم لهم شرك في السماوات ائتوني بكتاب من قبل هذا أو أثارة من علم إن كنتم صادقين ومن أضل ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة وهم عن دعائهم غافلون وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداء وكانوا بعبادتهم كافرين

تقدم القول في الحروف المقطعة التي في أوائل السور، و "تنزيل": رفع بالابتداء، أو خبر ابتداء مضمر، و "الكتاب": القرآن، و"العزة" و"الإحكام": صفتان مقتضيتان أن من هما له غالب كل من حاده.

وقوله تعالى: ما خلقنا السماوات الآية موعظة وزجر، أي: فاشهدوا أيها الناس وانظروا ما يراد بكم ولم خلقتم، وقوله: "إلا بالحق" معناه: غلا بالواجب الحسن الذي قد حق أن يكون، وبـ"أجل مسمى": وقتناه وجعلناه موعدا لفساد هذه البنية، وذلك هو يوم القيامة، وقوله تعالى: عما أنذروا معرضون "ما" مصدرية، والمعنى: عن الإنذار، ويحتمل أن تكون "ما" بمعنى الذي، والتقدير: عن ذكر الذي أنذروا به والتحفظ منه، أو نحو هذا.

[ ص: 609 ] وقوله تعالى: قل أرأيتم يحتمل "أرأيتم" وجهين: أحدهما: أن تكون متعدية، و"ما" مفعولة بها، ويحتمل أن تكون منبهة لا تتعدى، وتكون "ما" استفهاما على معنى التوبيخ. و "تدعون" معناه: تعبدون، قال الفراء : وفي قراءة عبد الله بن مسعود : "من تعبدون من دون الله"، وقوله تعالى: "من الأرض": "من": للتبعيض، لأن كل ما على وجه الأرض من حيوان ونحوه فهو من الأرض، ثم وقفهم على السماوات، هل لهم فيها شرك؟ ثم استدعى تعالى منهم كتابا منزلا قبل القرآن يتضمن عبادة صنم.

وقوله تعالى: أو أثارة من علم معناه: أو بقية قديمة من علم أحد العلماء يقتضي عبادة الأصنام، وقرأ جمهور الناس: "أو أثارة" على المصدر، كالشجاعة والسماحة، وهي البقية من الشيء كأنها أثره، وقال الحسن بن أبي الحسن: المعنى: من علم تستخرجونه فتثيرونه، وقال مجاهد : المعنى: هل من أحد يأثر علما في ذلك، وقال القرظي : هو الإسناد، ومن هذا المعنى قول الأعشى:


إن الذي فيه تماريتما ... بين للسامع والآثر



أي: وللمسند عن غيره، ومنه قول عمر رضي الله عنه: "فما خلفت بها ذاكرا ولا آثرا"، وقال أبو سلمة بن عبد الرحمن ، وقتادة : المعنى: وخاصة من علم، فاشتقاقها من الأثرة، كأنها قد آثر الله تبارك وتعالى بها من هي عنده، وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: المراد ب "الأثارة": الخط في التراب، وذلك شيء كانت العرب تفعله وتتكهن به وتزجر، وهذا من البقية والأثر، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن ذلك، فقال: "كان نبي من الأنبياء يخطه، فمن وافق خطه فذاك" ، وظاهر الحديث يقوي [ ص: 610 ] أمر الخط في التراب، وأنه شيء له وجه إذا وفق أحد إليه، وهكذا تأوله كثير من العلماء، وقالت فرقة: بل معناه الإنكار، أي: أنه كان من فعل نبي قد ذهب، وذهب الوحي إليه والإلهام في ذلك، ثم قال: "فمن وافق خطه" على جهة الإبعاد، أي: إن ذلك لا يمكن ممن ليس بنبي ميسر لذلك، وهذا كما يسألك أحد فيقول: أيطير الإنسان؟ فتقول: إنما يطير الطائر، فمن كان له من الناس جناحان طار، أي: أن ذلك لا يكون.

والأثارة تستعمل في بقية الشرف، فيقال: إن لبني فلان أثارة من شرف، إذا كانت عندهم شواهد قدمه، وتستعمل في غير ذلك، كقول الراعي:


وذات أثارة أكلت عليه ...     نباتا في أكمته ففارا



يريد: الأثارة من الشحم، أي: البقية.

وقرأ عبد الرحمن السلمي -فيما حكى الطبري -: "أو أثرة" بفتح الهمزة والثاء والراء دون ألف، وحكاها أبو الفتح عن ابن عباس ، وقتادة ، وعكرمة ، وعمرو بن ميمون ، والأعمش ، وهي واحدة جمعها أثر كقترة وقتر، وحكى الثعلبي أن عكرمة قرأ: "أو ميراث من علم"، وقرأ علي بن أبي طالب رضي الله عنه، والسلمي -فيما حكى أبو الفتح-: "أثرة" بسكون الثاء، وهي الفعلة الواحدة مما يؤثر، أي: قد قنعت لكم بحجة واحدة وتخير واحد وأثر واحد يشهد بصحة قولكم، وقرأت فرقة بضم [ ص: 611 ] الهمزة وسكون الثاء، وهذه كلها بمعنى: هل عندكم شيء خصكم الله به من علم وآثركم به؟

وقوله تعالى: ومن أضل الآية توبيخ لعبدة الأصنام، أي: لا أحد أضل ممن هذه صبغته، وجاءت الكنايات في هذه الآية عن الأصنام كما تجيء عمن يعقل، وذلك أن الكفار قد أنزلوها منزلة الآلهة وبالمحل الذي دونه البشر، فخوطبوا على نحو معتقدهم فيها، وفي مصحف عبد الله بن مسعود : "ما لا يستجيب"، والضمير في قوله سبحانه: وهم عن دعائهم هو للأصنام في قول جماعة، ووصف الأصنام بالغفلة من حيث عاملهم معاملة من يعقل، ويحتمل أن يكون الضمير في قوله تعالى: وهم عن دعائهم وفي "غافلون" للكفار، أي: ضلالهم بأنهم يدعون من لا يستجيب فلا يتأملون ما عليهم في دعائهم من هذه صفته

وقوله تعالى: كانوا لهم أعداء وصف لما يكون يوم القيامة بين الكفار وأصنامهم من التبري والمناكرة، وقد بين ذلك في غير هذه الآية، وذلك قوله تعالى حكاية عنهم: تبرأنا إليك ما كانوا إيانا يعبدون .

التالي السابق


الخدمات العلمية