الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 386 ] فصل ( يكره قول أبقاك الله في السلام ) .

قال الخلال في الأدب : كراهية قوله في السلام أبقاك الله . أنبأنا عبد الله بن أحمد بن حنبل قال رأيت أبي إذا دعي له بالبقاء يكرهه ويقول هذا شيء قد فرغ منه وقال إسحاق جئت أبا عبد الله بكتاب من خراسان فإذا عنوانه لأبي عبد الله أبقاه الله فأنكره وقال أيش هذا ؟ وذكر الشيخ تقي الدين أنه يكره ذلك وأنه نص عليه أحمد وغيره من الأئمة .

واحتج الشيخ تقي الدين وغيره في هذا بحديث { أم حبيبة لما سألت أن يمتعها الله بزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم وبأبيها أبي سفيان وبأخيها معاوية فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم إنك سألت الله لآجال مضروبة ، وآثار موطوءة ، وأرزاق مقسومة ، لا يعجل منها شيء قبل حله ، ولا يؤخر منها شيء بعد حله ، ولو سألت الله أن يعافيك من عذاب في النار وعذاب في القبر كان خيرا لك } رواه مسلم في كتاب القدر من حديث ابن مسعود ، وله في رواية { وأيام معدودة } في رواية أخرى { وآثار مبلوغة } ( حله ) بفتح الحاء وكسرها .

وعن ثوبان مرفوعا { إن الرجل ليحرم الرزق بالذنب يصيبه وإنه لا يرد القدر إلا الدعاء ، ولا يزيد في العمر إلا البر } رواه أحمد عن وكيع عن سفيان عن عبد الله بن عيسى عن عبد الله بن أبي الجعد عن ثوبان .

ورواه ابن ماجه عن علي بن محمد عن وكيع ، كلهم ثقات وعبد الله بن عيسى هو ابن عبد الرحمن بن أبي ليلى .

وروى الترمذي عن محمد بن حميد الرازي وسعيد بن يعقوب الطالقاني عن يحيى بن الضريس عن أبي مودود عن سليمان التيمي عن أبي عثمان النهدي عن سلمان الفارسي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال { لا يرد القضاء إلا الدعاء ولا يزيد في العمر إلا البر } إسناد جيد قال الترمذي حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث يحيى وأبو مودود هذا اسمه فضة . [ ص: 387 ]

قال أبو جعفر النحاس فيما يحتاج إليه الكتاب : ومن الاصطلاح المحدث كتبهم أطال الله بقاء سيدنا قال علي بن سليمان لا أدري ممن أخذوا هذا وزعموا أنه أجل الدعاء ونحن ندعو رب العالمين على غير هذا ، ومع هذه ففيه انقلاب المعنى قال أبو جعفر إني لم أر أحدا من النحويين أعرف بهذه الأشياء منه سيسيء من علي بن سليمان قال لأنه من أهل الكتابة .

وقال أبو جعفر أيضا ومن الاصطلاح المحدث كتبهم أطال الله بقاءك ، وقد حكى إسماعيل بن إسحاق أنه دعاء محدث ، واستدل على هذا بأن الكتب المتقدمة كلها لا يوجد فيها هذا الدعاء غير أنه ذكر أن أول من أحدثه الزنادقة .

وقال أبو جعفر أيضا : رأيت علي بن سليمان ينكر كتبهم أطال الله بقاء سيدي وقال هذا دعاء الغائب وهو جهل باللغة ، ونحن ندعو الله عز وجل بالمخاطبة قال أبو جعفر منهم من قال أطال الله بقاءك أجل الدعاء لأن العز وما بعده إنما ينتفع به مع طول البقاء وقال بعضهم هو أفخم الدعاء فلذلك قدموه واتبعوه ، وأدام عزك لأنه إذا ديم عزه كان محوطا مصونا غالبا لعدوه آمنا غنيا فاتبعوه ، " وتأييدك " .

لأن معناه وزاد مما دعوت لك به ، وأصله من أيده أي قواه " وسعادتك " أصله من المساعدة أي أن يساعد على ما يريده . وهذا كله أجل من " وأكرمك " لأنه قد يكرم ولا يساعد وقد قيل إنه كان أعزك جليلا ثم حدث وتأييدك . وقال أبو جعفر أيضا منهم من كره أن يكتب أطال الله بقاءك ، واحتج بحديث أم حبيبة يعني المذكور ، ومنهم من رخص في ذلك واحتج بقول النبي صلى الله عليه وسلم لأبي اليسر كعب بن عمرو { اللهم أمتعنا به } ومات سنة خمس وخمسين وهو آخر أهل بدر وفاة . وبحديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول { اللهم أمتعني بسمعي وبصري } كذا قال في حديث عائشة ولا بحضرتي الآن إلا من حديث أبي هريرة رواه الترمذي وفيه { واجعله [ ص: 388 ] الوارث مني } .

ومن حديث ابن عمر { اللهم أمتعنا بأسماعنا وأبصارنا وقوتنا ما أحييتنا واجعله الوارث مني } وذكر الحديث رواه الترمذي وحسنه .

وعن عائشة رضي الله عنها قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول { اللهم عافني في جسدي وعافني في بصري واجعله الوارث مني } رواه الترمذي وقال غريب وسمعت محمدا يقول حبيب بن أبي ثابت لم يسمع من عروة بن الزبير شيئا .

وعن يحيى بن سعيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول في دعائه { اللهم فالق الإصباح وجاعل الليل سكنا والشمس والقمر حسبانا اقض عني الدين وأغنني من الفقر وأمتعني بسمعي وبصري وقوتي في سبيلك } رواه مالك في الموطأ مرسلا .

قال أبو جعفر : فأما ما أشكل من هذا لأن العمر قد فرغ منه فالجواب أن الدعاء معلق بما فيه الصلاح بمشيئة الله عز وجل ، وكذا أنسأ الله في أجلك ونسأ الله أجلك قال وقيل الدعاء بهذا معناه التوسعة والغنى وروي عن حماد بن سلمة أن مكاتبة المسلمين : كانت من فلان إلى فلان سلام عليك ، أما بعد فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو وأسأله أن يصلي على محمد عبده ورسوله . ثم إن الزنادقة أحدثوا هذه المكاتبات ، أولها أطال الله بقاءك وقال غيره كان يدعى للخلفاء الغابرين أما بعد حفظ الله أمير المؤمنين وأمتع به ، وأما بعد أبقى الله أمير المؤمنين ورضي الله عنه ، وأما بعد أكرم الله أمير المؤمنين وحفظه وزعم أن أول من رسم الدعاء معاوية كتب إلى أمير المؤمنين : عافانا الله وإياك من السوء . ثم زاد الناس .

فمما يكاتب به ما ذكرناه فمن يستحسن أن يكاتب بطول البقاء فإنه لا يأتي بذلك مطلقا ولكن يضمنه بشيء آخر فيكتب أطال الله بقاءك في طاعته وسلامته وكفايته ، وأعلى جدك وصان قدرك وكان معك ولك حيث لا تكون لنفسك . وكذا يكتب أطال الله بقاءك في أسر عيش وأنعم بال ، وخصك منه بالتوفيق بما تحب وترضى وحياك برشده ، وقطع بينك [ ص: 389 ] وبين معاصيه بلطفه . ومنه ، أطال الله بقاءك بما أطال به بقاء المطيعين وأعطاك من العطاء بما أعطى المصلحين .

ومنهم من لا يضمنه بشيء إلا أنه يدعو بغير دعاء الكتاب فيقول أطال الله بقاءك وأكرم مثواك ، ومنهم من لا يستجيز الدعاء بطول البقاء ويكتب أكرمك الله بطاعته وتولاك بحفظه وحسن كلاءته ، وأسعدك بمغفرته ، وأيدك بنصره . وجمع لك خير الدنيا والآخرة برحمته ، وفي مثله : تولاك الله من يمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه وكان لك من هو بالمؤمنين رءوف رحيم ، ومثله : أكرمك الله وأكرم عن النار وجهك ، وزين بالتقوى عملك ومثله أكرمك الله كرامة تكون لك في الدنيا عزا ، وفي الآخرة من النار حرزا .

وسئل أبو إسحاق عن معنى " أما بعد " فذكر قول سيبويه : مهما يكن من شيء قال أبو إسحاق إذا كان الرجل في حديث وأراد أن يأتي بغيره قال أما بعد وعلى هذا النحويون ولهذا لم يجيزوا في أول الكلام أما بعد ، وقيل أما بعد . فصل الخطاب الذي أوتيه داود عليه السلام وإنه أول من تكلم به ، وقيل بل هو علم القضاء ، وقيل أول من تكلم به كعب بن لؤي وهو أول من سمى يوم الجمعة يوم الجمعة وكان يقال له العروبة ، وأجاز الفراء أما بعدا بالنصب والتنوين ، وأما بعد بالرفع والتنوين ، وأجاز ابن هشام أما بعد بفتح الدال ، ويقول أما بعد أطال الله بقاءك فإني نظرت في كذا وأجود منه : أما بعد فإني نظرت أطال الله بقاءك .

ولك أن تقول أما بعد فأطال الله بقاءك إني ، وفإني ، وإني ، وثم إني ، وأما بعد أطال الله بقاءك فإني ، وأما بعد ثم أطال الله بقاءك ثم إني ، وبقاؤك مصدر من بقي ، وإن أخذته من أبقى قلت أبقاك الله فإن ثنيت بقاء أو جمعته قلت بقاءكما وبقاءكم وبقاءكن لأنه مصدر وإن جعلت بقاء مخالفا لبقاء قلت بقاء كما وأبقيتم . [ ص: 390 ]

ويكتب في الدعاء الآخر وأطال الله بقاءك بالواو ، والفائدة في المجيء بالواو الإعلام بأنك لم تضرب عن الأول ، ولو حذفتها جاز أن يتوهم أنك قد أضربت عن الأول ، وهذا من جنس قول النحويين في الفائدة في المجيء بواو العطف مع الجمل ، وإن حذفها أيضا جائز لأنه قد عرف المعنى . وكذا وحسبي الله ، وإن شئت حذفت الواو ، فأما حسبنا الله فإنما يكتب به الجليل من الناس . والأحسن أن يكتب حسبي الله تواضعا لله عز وجل . ويستعمل ابن عقيل في فنونه معنى هذا فيقول حضرت بمجلس الأجل قاضي القضاة حرس الله نعمه وأطال عمره .

وروى القاضي أبو يعلى وغيره بإسنادهم عن عبيد بن رفاعة عن أبيه قال جلس إلى عمر وعلي والزبير وسعد في نفر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فتذاكروا العزل فقالوا لا بأس به فقال رجل إنهم يزعمون أنه الموءودة الصغرى ، فقال علي لا يكون موءودة حتى تمر عليه التارات السبع حتى يكون من سلالة من طين ثم تكون نطفة ثم تكون علقة ثم تكون مضغة ثم تكون عظما ثم تكون لحما ثم تكون خلقا آخر ، فقال عمر صدقت أطال الله بقاءك قال بعض متأخري أصحابنا وبهذا احتج من احتج على جواز الدعاء للرجل بطول البقاء .

التالي السابق


الخدمات العلمية