الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            [ ص: 145 ] ( ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم يوم تبيض وجوه وتسود وجوه فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون وأما الذين ابيضت وجوههم ففي رحمة الله هم فيها خالدون تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق وما الله يريد ظلما للعالمين ولله ما في السماوات وما في الأرض وإلى الله ترجع الأمور )

                                                                                                                                                                                                                                            قوله تعالى : ( ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم يوم تبيض وجوه وتسود وجوه فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون وأما الذين ابيضت وجوههم ففي رحمة الله هم فيها خالدون تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق وما الله يريد ظلما للعالمين ولله ما في السماوات وما في الأرض وإلى الله ترجع الأمور )

                                                                                                                                                                                                                                            اعلم أنه تعالى في الآيات المتقدمة عاب أهل الكتاب على شيئين . أحدهما : أنه عابهم على الكفر ، فقال : ( قل ياأهل الكتاب لم تكفرون ) [ آل عمران : 70 ] ثم بعد ذلك عابهم على سعيهم في إلقاء الغير في الكفر ، فقال : ( قل ياأهل الكتاب لم تصدون عن سبيل الله ) [ آل عمران : 99 ] فلما انتقل منه إلى مخاطبة المؤمنين أمرهم أولا بالتقوى والإيمان ، فقال : ( اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون واعتصموا بحبل الله جميعا ) ثم أمرهم بالسعي في إلقاء الغير في الإيمان والطاعة ، فقال : ( ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ) وهذا هو الترتيب الحسن الموافق للعقل ، وفي الآية مسألتان :

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الأولى : في قوله : ( منكم ) قولان . أحدهما : أن ( من ) هاهنا ليست للتبعيض لدليلين . الأول : أن الله تعالى أوجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على كل الأمة في قوله : ( كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر ) [ آل عمران : 110 ] والثاني : هو أنه لا مكلف إلا ويجب عليه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، إما بيده ، أو بلسانه ، أو بقلبه ، ويجب على كل أحد دفع الضرر عن النفس إذا ثبت هذا فنقول : معنى هذه الآية كونوا أمة دعاة إلى الخير آمرين بالمعروف ناهين عن المنكر ، وأما كلمة ( من ) فهي هنا للتبيين لا للتبعيض كقوله تعالى : ( فاجتنبوا الرجس من الأوثان ) [ الحج : 30 ] ويقال أيضا : لفلان من أولاده جند وللأمير من غلمانه عسكر يريد بذلك جميع أولاده وغلمانه لا بعضهم ، كذا هاهنا ، ثم قالوا : إن [ ص: 146 ] ذلك وإن كان واجبا على الكل إلا أنه متى قام به قوم سقط التكليف عن الباقين ، ونظيره قوله تعالى : ( انفروا خفافا وثقالا ) [ التوبة : 41 ] وقوله : ( إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما ) [ التوبة : 39 ] فالأمر عام ، ثم إذا قامت به طائفة وقعت الكفاية وزال التكليف عن الباقين .

                                                                                                                                                                                                                                            والقول الثاني : أن ( من ) هاهنا للتبعيض ، والقائلون بهذا القول اختلفوا أيضا على قولين . أحدهما : أن فائدة كلمة ( من ) هي أن في القوم من لا يقدر على الدعوة ولا على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مثل النساء والمرضى والعاجزين . والثاني : أن هذا التكليف مختص بالعلماء ويدل عليه وجهان . الأول : أن هذه الآية مشتملة على الأمر بثلاثة أشياء : الدعوة إلى الخير ، والأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، ومعلوم أن الدعوة إلى الخير مشروطة بالعلم بالخير وبالمعروف وبالمنكر فإن الجاهل ربما عاد إلى الباطل وأمر بالمنكر ونهى عن المعروف ، وربما عرف الحكم في مذهبه وجهله في مذهب صاحبه فنهاه عن غير منكر ، وقد يغلظ في موضع اللين ويلين في موضع الغلظة ، وينكر على من لا يزيده إنكاره إلا تماديا ، فثبت أن هذا التكليف متوجه على العلماء ، ولا شك أنهم بعض الأمة ، ونظير هذه الآية قوله تعالى : ( فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ) [ التوبة : 122 ] . والثاني : أنا أجمعنا على أن ذلك واجب على سبيل الكفاية بمعنى أنه متى قام به البعض سقط عن الباقين ، وإذا كان كذلك كان المعنى ليقم بذلك بعضكم ، فكان في الحقيقة هذا إيجابا على البعض لا على الكل ، والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                                                            وفيه قول رابع : وهو قول الضحاك : إن المراد من هذه الآية أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنهم كانوا يتعلمون من الرسول عليه السلام ويعلمون الناس ، والتأويل على هذا الوجه كونوا أمة مجتمعين على حفظ سنن الرسول صلى الله عليه وسلم وتعلم الدين .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثانية : هذه الآية اشتملت على التكليف بثلاثة أشياء ، أولها : الدعوة إلى الخير ثم الأمر بالمعروف ، ثم النهي عن المنكر ، ولأجل العطف يجب كون هذه الثلاثة متغايرة ، فنقول : أما الدعوة إلى الخير فأفضلها الدعوة إلى إثبات ذات الله وصفاته وتقديسه عن مشابهة الممكنات وإنما قلنا إن الدعوة إلى الخير تشتمل على ما ذكرنا لقوله تعالى : ( ادع إلى سبيل ربك بالحكمة ) [ النحل : 125 ] وقوله تعالى : ( قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني ) [ يوسف : 108 ] .

                                                                                                                                                                                                                                            إذا عرفت هذا فنقول : الدعوة إلى الخير جنس تحته نوعان . أحدهما : الترغيب في فعل ما ينبغي وهو بالمعروف . والثاني : الترغيب في ترك ما لا ينبغي وهو النهي عن المنكر ، فذكر الجنس أولا ثم أتبعه بنوعيه مبالغة في البيان ، وأما شرائط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فمذكورة في كتب الكلام .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية