الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله عز وجل:

أولئك الذين نتقبل عنهم أحسن ما عملوا ونتجاوز عن سيئاتهم في أصحاب الجنة وعد الصدق الذي كانوا يوعدون والذي قال لوالديه أف لكما أتعدانني أن أخرج وقد خلت القرون من قبلي وهما [ ص: 621 ] يستغيثان الله ويلك آمن إن وعد الله حق فيقول ما هذا إلا أساطير الأولين أولئك الذين حق عليهم القول في أمم قد خلت من قبلهم من الجن والإنس إنهم كانوا خاسرين ولكل درجات مما عملوا وليوفيهم أعمالهم وهم لا يظلمون

قوله تعالى: "أولئك" دليل على أن الإشارة بالإنسان في قوله تعالى: ووصينا الإنسان بوالديه إلى الجنس، وقرأ جمهور القراء: "يتقبل" بالياء مضمومة على بناء الفعل للمفعول، وكذلك "يتجاوز"، وقرأ حمزة ، والكسائي ، وحفص عن عاصم فيهما بالنون التي للعظمة، "أحسن" بالنصب، وهي قراءة ابن وثاب ، وطلحة ، وابن جبير ، والأعمش بخلاف، وقرأ الحسن: "يتقبل" بياء مفتوحة، "ويتجاوز" كذلك، أي: الله تعالى. وقوله تعالى: في أصحاب الجنة يريد: الذين سبقت لهم رحمة الله تعالى، وقوله: وعد الصدق نصب على المصدر المؤكد لما قبله.

وقوله تعالى: والذي قال لوالديه أف لكما الآية، "الذي" يعنى به الجنس على حد العموم الذي في الآية التي قبلها في قوله تعالى: ووصينا الإنسان بوالديه ، هذا قول الحسن وجماعة، ويشبه أن لها سببا من رجل قال ذلك لأبويه، فلما فرغ من ذكر ذلك الموفق عقب بذكر هذا العاق. وقال ابن عباس رضي الله عنهما في كتاب الطبري : نزلت في هذه الآية في ابن لأبي بكر ، ولم يسمه. وقال مروان بن الحكم : نزلت في عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وقاله قتادة ، وذلك أنه كان أكبر أولاد أبي بكر وشهد بدرا وأحدا مع الكفار، وقال لأبيه في الحرب:


لم يبق إلا شكة ويعبوب ... وصارم يقتل ضلال الشيب



ودعاه للمبارزة، فكان بمكة على نحو هذه الخلق، فقيل إنها نزلت فيه. وروي أن مروان بن الحكم خطب وهو أمير المدينة فدعا الناس إلى بيعة يزيد، فقال عبد الرحمن بن أبي بكر : جعلتموها هرقلية، كلما مات هرقل ولي هرقل، وكلما مات [ ص: 622 ] قيصر ولي قيصر، فقال مروان : خذوه، فدخل عبد الرحمن بيت عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها ، فقال مروان : إن هذا هو الذي قال الله تعالى فيه: والذي قال لوالديه أف لكما ، فسمعته عائشة رضي الله عنها ، فأنكرت ذلك عليه، وسبت مروان ، وقالت: والله ما نزل في آل أبي بكر من القرآن غير براءتي، وإني لأعرف فيمن نزلت هذه الآية. وذكر ابن عبد البر أن الذي خطب هو معاوية رضي الله عنه، وذلك وهم، والأصوب أن تكون عامة في أهل هذه الصفات ولم يقصد بها عبد الرحمن ولا غيره من المؤمنين، والدليل القاطع على ذلك قوله تعالى: أولئك الذين حق عليهم القول في أمم قد خلت من قبلهم وكان عبد الرحمن رضي الله عنه من أفضل الصحابة، ومن الأبطال، وممن له في الإسلام غناء، ويكفيه مقامه مع مروان يوم اليمامة وغيره.

وقرأ أبو عمرو ، وحمزة ، والكسائي ، وأبو بكر عن عاصم ، وطلحة بن مصرف : "أف" بكسر الفاء بغير تنوين، وذلك فيها علامة تعريف. وقرأ ابن كثير ، وابن عامر ، وابن محيصن، وشبل، وعمرو بن عبيد : "أف" بالفتح، وهي لغة، الكسر والفتح، وقرأ نافع ، وحفص عن عاصم ، وأبو جعفر ، وشيبة ، والحسن ، والأعرج : "أف" بالكسر والتنوين، وذلك علامة تنكير، وهي كصه، وكما تستطعم رجلا حديثا غير معين فتقول: "إيه" منونة، فإن كان حديثا مشارا إليه قلت: "إيه" بغير تنوين، و"أف": أصلها في الأقذار، وكانت العرب إذا رأت قذرا قالت: "أف"، ثم صيره الاستعمال يقال في كل ما يكره من الأقوال و الأفعال.

وقرأ هشام عن ابن عامر ، وعاصم ، وأبو عمرو فيما روي عنه-: "أتعداني" ، وقرأ أبو عمرو ، ونافع ، وشيبة ، والأعرج ، والحسن ، وأبو جعفر ، وجمهور القراء: "أتعدانني" بنونين، والقراءة الأولى هي بإدغام النون في النون، وقرأ نافع أيضا: [ ص: 623 ] "أتعداني" بنون واحدة وإظهار الياء، وقرأ نافع ، وأبو عمرو ، وعاصم ، وأبو جعفر ، والأعرج ، وشيبة ، وقتادة ، وأبو رجاء ، وابن وثاب ، وجمهور الناس: "أن أخرج" بضم الهمزة وفتح الراء. وقرأ الحسن، وابن يعمر ، والأعمش ، وابن مصرف ، والضحاك : "أن أخرج" بفتح الهمزة وضم الراء. والمعنى: أن أخرج من القبر للحشر والمعاد، وهذا القول منه استفهام بمعنى الهزء والاستبعاد، وقوله تعالى: وقد خلت القرون من قبلي معناه: هلكت ومضت ولم يخرج منهم أحد، وقوله: وهما يستغيثان الله يعني: الوالدين، ويقال: استغثت الله واستغثت بالله بمعنى واحد. و "ويلك" دعاء لمن يحقر ويحرك لأمر ما يستعجل إليه.

وقرأ الأعرج : "أن وعد الله حق" بفتح الهمزة، والناس على كسرها، وقوله: ما هذا إلا أساطير الأولين أي: ما هذا القول الذي يتضمن البعث من القبور إلا شيء قد سطره الأولون في كتبهم، يعني: الشرائع، وظاهر ألفاظ هذه الآية أنها نزلت في مشار إليه قال وقيل له، فنعى الله تعالى أقواله تحذيرا من الوقوع في مثلها.

قوله تعالى: أولئك الذين حق ، ظاهر أنها إشارة إلى جنس يتضمنه قوله تعالى: "والذي قال"، ويحتمل -إن كانت الآية في مشار إليه- أن يكون قوله تعالى: "أولئك" بمعنى: صنف هذا المذكور وجنسه هم الذين حق عليهم القول، أي: قول الله تعالى ، وقوله تعالى: قد خلت من قبلهم من الجن والإنس يقتضي أن الجن يموتون كما يموت البشر قرنا بعد قرن، وقد جاء حديث يقتضي ذلك. وقال الحسن بن أبي الحسن في بعض مجالسه: "الجن لا تموت"، فاعترضه قتادة بهذه الآية فسكت.

وقوله تعالى: ولكل درجات يعني المحسنين والمسيئين. وقال ابن زيد : درجات المحسنين تذهب علوا، ودرجات المسيئين تذهب سفلا، وقرأ أبو عبد الرحمن : "ولتوفيهم" بالتاء من فوق، أي الدرجات. وقرأ جمهور الناس: "وليوفيهم" بالياء، وقرأ نافع -بخلاف عنه- وأبو جعفر ، وشيبة ، والأعرج ، وطلحة ، والأعمش : "ولنوفيهم" بالنون، وقرأ اللؤلؤي في حرف أبي بن كعب وابن مسعود رضي الله عنهما: "ولنوفينهم" بنون أولى ونون ثانية مشددة وبفتح اللام، وكل امرئ يجني ثمرة عمله من خير أو شر ولا يظلم في مجازاته، بل يوضع كل أمر موضعه من ثواب أو عقاب.

التالي السابق


الخدمات العلمية