الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                              صفحة جزء
                                                                                              1557 (7) باب

                                                                                              الأمر بغسل الميت وكيفيته

                                                                                              [ 807 ] عن أم عطية قالت : دخل علينا النبي - صلى الله عليه وسلم - ونحن نغسل ابنته ، فقال : اغسلنها ثلاثا أو خمسا ، أو أكثر من ذلك إن رأيتن ذلك ، بماء وسدر ، واجعلن في الآخرة كافورا أو شيئا من كافور ، فإذا فرغتن فآذنني . فلما فرغنا آذناه ، فألقى إلينا حقوه فقال : أشعرنها إياه .

                                                                                              وفي رواية قالت : دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم حين توفيت ابنته فقال : اغسلنها . . . الحديث .

                                                                                              وفي رواية قال : اغسلنها ثلاثا أو خمسا أو سبعا ، أو أكثر من ذلك .

                                                                                              وقالت أم عطية : مشطناها ثلاثة قرون .

                                                                                              وفي رواية : قرنيها وناصيتها .

                                                                                              وفي أخرى قال : ابدأن بميامنها ومواضع الوضوء منها .

                                                                                              رواه أحمد (6 \ 407 و 408) ، والبخاري (1352) ، ومسلم (939) (36 و 39 و 40 و 41) ، وأبو داود (3142 - 3146) ، والترمذي (990) ، والنسائي (4 \ 28) ، وابن ماجه (1457) .

                                                                                              التالي السابق


                                                                                              (7) ومن باب : الأمر بغسل الميت

                                                                                              قوله صلى الله عليه وسلم " اغسلنها ثلاثا أو خمسا ، أو أكثر من ذلك إن رأيتن " ، لا خلاف في أن غسل الميت مشروع ومعمول به في الشريعة ، لكن اختلف في حكمه ; فقيل الوجوب ، وقيل سنة مؤكدة ، والقولان في المذهب ، وسبب الخلاف فيه هو أن هذا الأمر هل المقصود به بيان حكم الغسل فيكون واجبا ؟ أو المقصود به تعليم كيفية الغسل فلا يكون فيه ما يدل على الوجوب ؟ وقد قال بعض أصحابنا : إن قوله في هذا " إن رأيتن ذلك " يقتضي إخراج ظاهر الأمر بالغسل عن الوجوب ; لأنه قد فوضه إلى نظرهن ، ورد هذا التقييد إلى الأمر بالغسل ، وهذا فيه بعد ، بل السابق للفهم عود هذا الشرط إلى الأقرب له وهو " أكثر من ذلك " ، أو إلى التخيير في الأعداد السابقة ، والأول أظهر . والظاهر من هذا الأمر أنه أمر تعليم ، ولم يقصد به تقعيد قاعدة حكم الغسل فلا يتمسك بظاهره ، فالأولى أن غسل الميت سنة ثابتة نقلت بالعمل ، والله تعالى أعلم .

                                                                                              وهذا الحديث يقتضي استحباب الأوتار في غسل الميت ، وأن أقل ذلك [ ص: 593 ] ثلاث ، وليس لذلك عند مالك وبعض أصحابه حد لازم يقتصر عليه ، لكنه ينقى ويغسل جميعه ، وإليه يرجع قول الشافعي وغيره من العلماء . وصرف الأمر إلى اجتهاد الغاسل إنما هو بحسب ما يراه زيادة في الإنقاء والاحتياج إلى ذلك ، وكذلك إذا خرج من الميت شيء بعد غسله أعاد غسله ، وقد جاء في الرواية الأخرى " أو سبعا ، أو أكثر من ذلك " ، قال أبو عمر بن عبد البر : لا نعلم أحدا من العلماء قال بمجاوزة سبع غسلات في غسل الميت . قال أبو الفضل عياض : وإن خرج منه شيء بعد السبع غسل الموضع وحده ، قال مالك وأبو حنيفة وجماعة من المالكية ، قالوا : وحكمه حكم الجنب إذا أحدث بعد غسله . ومنهم من قال : يوضأ إذا خرج منه شيء بعد الثالثة .

                                                                                              وقوله " بماء وسدر " احتج بهذا ابن شعبان ومن يجيز غسله بماء الورد وبالماء المضاف ، قال ابن الفرضي : وإنما يكره غسل الميت بماء القرنفل وماء الورد من ناحية السرف ، وإلا فهو جائز ; إذ لا يغسل ليطهر ، بل هو إكرام للقاء الملكين . والجمهور على أن غسله بذلك لا يجوز ، وأن ذلك لا يفهم من الحديث ، لكنه عندهم محمول على أن يغسل أولا بالماء القراح فتتم الطهارة ، وفي الثانية بالماء والسدر للتنظيف ، ثم قال في الثالثة بالماء والكافور للتطييب والتجفيف . قال عياض : وهذا حقيقة مذهب مالك ، وحكاه ابن حبيب وقال : بل يبدأ بالماء والسدر ، ثم بالماء القراح . وقال أبو قلابة مثله ، لكنه قال : ويحسب هذا غسلة واحدة . وذهب أحمد إلى أن الغسلات كلها تكون بالماء والسدر على ظاهر الحديث .

                                                                                              قلت : ويمكن أن يجعل السدر في الماء ، ويخضخض حتى تخرج رغوته ، ثم يدلك جسد الميت ليبالغ في إزالة أدرانه ، ثم يصب الماء عليه ، كما يحتال في قلع ما يعسر قلعه من الأدران بالغاسول ، ويكون هذا في أول غسله كما قاله [ ص: 594 ] ابن حبيب ، والله أعلم . فإن لم يوجد سدر فغيره من الغاسول مما يتنزل منزلته يكفي عند كافة العلماء ، وروي عن عائشة - رضي الله عنها - في غسل رأس الميت بالخطمي نهي .

                                                                                              وقوله " واجعلن في الآخرة كافورا " ; يعني في الغسلة الآخرة ، وعلى هذا جماعة العلماء إلا أبا حنيفة والأوزاعي ، فإنهما رأيا أن ذلك في الحنوط لا في الغسل . وفائدة تخصيص الكافور تبريده وتجفيفه ومنعه سرعة التغير وقوة رائحته وسطوعها ، فإن عدم قام غيره من الطيب مقامه ، وهذا كله إكرام للميت وإعداد له للقاء الملائكة الكرام ، والله تعالى أعلم .

                                                                                              وقوله " فألقى إلينا حقوه فقال : أشعرنها إياه " ، الحقو - بالفتح - هو المعروف من كلام العرب ، وقالته هذيل بكسر الحاء ، وأصله معقد الإزار ، وجمعه أحق وأحقاء وحقي ; كدلو وأدلاء ودلي . وهو في هذا الحديث الإزار ، وهو المئزر الذي يشد على الحقو ، فسمي باسم الحقو على التوسع ، كما تقول العرب : عذت بحقو فلان - أي استجرت به .

                                                                                              و " أشعرنها " ; أي : اجعلنه مما يلي جسدها ، والشعار الثوب الذي يلي الجسد ، والدثار الذي يلي الشعار ، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - للأنصار : أنتم شعار ، والناس دثار - كناية عن القرب والاتصال بهم .

                                                                                              واختلف في كيفية جعل هذا الإزار عليها ; فقال ابن وهب : يجعل لها مئزرا . وقال ابن القاسم : تلفف فيه ولا تؤزر - وهو قول ابن سيرين [ ص: 595 ] وابن جريج . وقال النخعي : الحقو فوق الدرع . وقال ابن علية : الحقو النطاق ، سبتية طويلة يجمع بها فخذاها تحصينا لها ، ثم تلف على عجزها . وفعل النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك لتنالها بركة ثوبه ، وفيه جواز تكفين النساء في ثياب الرجال .

                                                                                              وقول أم عطية " مشطناها ثلاثة قرون " ، قال بهذا الشافعي وأحمد وإسحاق وابن حبيب ، وقال الأوزاعي : لا يجب المشط . ولم يعرف ابن القاسم الضفر ، وقال : يلف . وقال أبو حنيفة : يكره ذلك ، ولكن ترسله الغاسلة غير مضفور بين ثدييها دون تسريح . وسبب هذا الخلاف هو أن الفعل الذي فعلته أم عطية هل هي مستندة في ذلك إلى إذن النبي - صلى الله عليه وسلم - أو هو شيء رأته ففعلته استحسانا ووافقتها من كان هناك من النساء ولم يعلم بذلك النبي صلى الله عليه وسلم ؟ وكلاهما محتمل ، والأصل أن لا يفعل في الميت شيء من جنس القرب إلا بإذن من الشرع محقق ، ولم يرد ذلك مرفوعا عن النبي صلى الله عليه وسلم ، والله أعلم .

                                                                                              وقولها " قرنيها وناصيتها " ، وفي البخاري " فألقيناها خلفها " ، قال أبو الفرج بن الجوزي : وعندنا أن السنة أن يضفر شعر الميتة ثلاثة قرون ويلقى خلفها .

                                                                                              [ ص: 596 ] وقوله “ ابدأن بميامنها ومواضع الوضوء منها " يدل على استحباب وضوء الميت ، وهو حجة لنا وللشافعي على أبي حنيفة فإنه لا يراه . واختلف عندنا متى يوضأ ؟ هل في المرة الأولى أو في الثانية أو فيهما ؟ والابتداء بالميامن على أصل الشريعة في استحباب ذلك في العبادات ، وقد أخذ الحسن من هذا الحديث أن النساء أحق بغسل المرأة من الزوج ، وأنه لا يغسلها إلا عند عدمهن . والجمهور من الفقهاء وأئمة الفتوى على خلافه ، وأنه أحق . وذهب الشعبي والثوري وأصحاب الرأي إلى أنه لا يغسلها جملة ، وأجمعوا على غسل الزوجة زوجها ، وجمهورهم على أنه أحق من الأولياء . وقال سحنون : الأولياء أحق . ولم ينبه النبي - صلى الله عليه وسلم - أم عطية على الغسل من غسل الميت ، وهو موضع تعليم ، فلو كان واجبا لبينه هنا . وقد روى أبو داود من حديث أبي هريرة مرفوعا : من غسل ميتا فليغتسل ، ومن حمله فليتوضأ . قال : اختلف في إسناد هذا الحديث ، وحمله الفقهاء على الاستحباب لا على الوجوب . واختلف في المقصود بهذا الغسل ; فقيل : ليكون على يقين من طهارة جسده لما يخاف أن يطير عليه من رشاش غسل الميت . وقيل : لأنه إذا عزم على الاغتسال كان أبلغ في غسله ، وأحرى ألا يتحفظ مما يصيبه ، فيبالغ في إنقائه وتنظيفه . قال الخطابي : [ ص: 597 ] لا أعلم أحدا قال بوجوب الغسل منه . وقال إسحاق : أما الوضوء فلا بد منه - ونحوه قال أحمد .

                                                                                              وهذه البنت التي ماتت للنبي - صلى الله عليه وسلم - هي زينب على ما جاء في الأم ، وقيل : هي أم كلثوم - على ما جاء في كتاب أبي داود من حديث ليلى بنت قانف الثقفية .




                                                                                              الخدمات العلمية