الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله عز وجل:

ولقد أهلكنا ما حولكم من القرى وصرفنا الآيات لعلهم يرجعون فلولا نصرهم الذين اتخذوا من دون الله قربانا آلهة بل ضلوا عنهم وذلك إفكهم وما كانوا يفترون وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن فلما حضروه قالوا أنصتوا فلما قضي ولوا إلى قومهم منذرين

قوله تعالى: ولقد أهلكنا ما حولكم من القرى مخاطبة لقريش على جهة التمثيل لهم بمأرب وسدوم وحجر ثمود، وقوله تعالى: وصرفنا الآيات يعني لهذه القرى المهلكة، وقوله سبحانه: فلولا نصرهم الذين اتخذوا الآية، :يعني هلا نصرتهم أصنامهم التي اتخذوها. و "قربانا" إما أن يكون المفعول الثاني بـ "اتخذوا" و "آلهة" بدل منه، وإما أن يكون حالا. و "آلهة" المفعول الثاني، والمفعول الأول هو الضمير العائد على: "الذين اتخذوا"، والتقدير: اتخذوهم. وقوله تعالى: بل ضلوا عنهم [ ص: 630 ] معناه: أتلفوا لهم حتى لم يجدوهم في وقت حاجة.

وقوله تعالى: "وذلك" تختلف الإشارة به تختلف بحسب اختلاف القراءات في قوله سبحانه: "إفكهم"، فقرأ الجمهور بكسر الهمزة وسكون الفاء وضم الكاف، فالإشارة بـ "ذلك" -على هذه القراءة- إلى قولهم في الأصنام: إنها آلهة، وذلك هو اتخاذهم إياها آلهة، وكذلك هي الإشارة في قراءة من قرأ: "أفكهم" بفتح الهمزة، وهي لغة في الإفك، وهما بمعنى الكذب، وكذلك هي الإشارة في قراءة من قرأ: "أفكهم" بفتح الهمزة والفاء والكاف على الفعل الماضي، بمعنى: صرفهم، وهي قراءة ابن عباس رضي الله عنهما، وأبي عياض، وعكرمة ، وحنظلة بن النعمان، وقرأ أبو عياض أيضا، وعكرمة -فيما حكى الثعلبي -: "أفكهم" بشد الفاء وفتح الهمزة والكاف، وذلك على تعدية الفعل بالتضعيف، وقرأ عبد الله بن الزبير : "آفكهم" بمد الهمزة، وفتح الفاء والكاف على التعدية بالهمزة، قال الزجاج : جعلهم يأفكون، كما يقال: أكفرهم، وقرأ ابن عباس رضي الله عنهما فيما روى قطرب: "آفكهم" بهمزة مفتوحة ممدودة وفاء مكسورة، وكاف مضمومة على وزن فاعل، بمعنى: صارفهم، وحكى الفراء أنه يقرأ: "أفكهم" بفتح الهمزة والفاء وضم الكاف، وهي لغة في "الإفك"، والإشارة بـ "ذلك" على هذه القراءات التي ليست مصدرا يحتمل أن تكون إلى الأصنام، وقوله تعالى: وما كانوا يفترون ويحتمل أن تكون "ما" مصدرية فلا تحتاج إلى عائد، ويحتمل أن تكون بمعنى "الذي" فهناك عائد محذوف تقديره: يفترونه.

وقوله تعالى: وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن ابتداء قصة الجن ووفادتهم على النبي صلى الله عليه وسلم. و "صرفنا" معناه: رددناهم عن حال ما، ويحتمل أنها الاستماع في السماء، ويحتمل أن تكون كفرهم قبل الوفادة، وذلك بحسب الاختلاف هنا، هل هم الوفد أو المتجسسون؟ وروي أن الجن كانت قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم تسترق السمع من السماء، فلما بعث النبي صلى الله عليه وسلم حرست بالشهب الراجمة، فضاقت الجن ذرعا بذلك، وأتى رأي ملئهم على الافتراق في أقطار الأرض وطلب السبب الموجب لهذا الرجم والمنع من استراق السمع ففعلوا ذلك.

واختلف الرواة بعد فقالت فرقة: جاءت طائفة من الجن إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو [ ص: 631 ] لا يشعر، فسمعوا القرآن، وولوا إلى قومهم منذرين، ولم يعرف النبي صلى الله عليه وسلم بشيء من ذلك حتى عرفه الله تعالى بذلك كله، وكان سماعهم لقراءته وهو بنخلة عند سوق عكاظ، وهو يقرأ في صلاة الفجر، وقالت فرقة: بل أشعره الله تعالى بوفادة الجن عليه واستعد لذلك، ووفد عليه أهل نصيبين منهم.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله:

والتحرير في هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم جاءه جن دون أن يعرف بهم، وهم المتفرقون من أجل الرجم، وهذا هو قوله تعالى: قل أوحي إلي الآية، ثم بعد ذلك وفد عليه وفد، وهو المذكور صرفه في هذه الآية. قال قتادة : صرفوا إليه من نينوى، أشعر به قبل [ ص: 632 ] وروده، وقال الحسن: لم يشعر به، واختلف في عددهم اختلافا متباعدا فاختصرته لعدم الصحة في ذلك، أما ابن عباس رضي الله عنهما فقال: كانوا سبعة نفر من أهل نصيبين، وقال زر: كانوا تسعة فيهم زوبعة، وروي في ذلك أحاديث عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إني خارج إلى وفد الجن، فمن شاء يتبعني" ، فسكت أصحابه، فقالها ثانية، فسكتوا، فقال عبد الله : أنا أتبعك، قال: فخرجت معه حتى جاء شعب الحجون، فأدار لي دائرة وقال: "لا تخرج منها"، ثم ذهب عني، فسمعت لغطا ودويا كدوي النسور الكاسرة، ثم في آخر الليل جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن قرأ عليهم القرآن وعلمهم، وأعطاهم زادا في كل عظم وروثة، فقال: "يا عبد الله ، ما رأيت؟" قال: فأخبرته، فقال: "لقد كنت أخشى أن تخرج فيخطفك بعضهم"، قلت: يا رسول الله، سمعت لهم لغطا، فقال: "إنهم تدارءوا في قتيل لهم، فحكمت بالحق بينهم".

قال القاضي أبو محمد رحمه الله:

واضطربت الروايات عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ، وروي عنه ما ذكرنا. وروي عنه أنه رأى رجالا من الجن وهم شبه رجال الزط السود الطوال حين رآهم بالكوفة، وروي عنه أنه قال: ما شاهد أحد منا ليلة الجن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاختصرت هذه الروايات وتطويلها لعدم صحتها.

وقوله تعالى: نفرا من الجن يقتضي أن المصروفين رجالا لا أنثى فيهم، فالنفر والرهط والقوم الذين لا أنثى فيهم، وقوله تعالى: فلما حضروه قالوا أنصتوا فيه تأدب مع العلم وتعليم كيف يتعلم، وقرأ جمهور الناس: "قضي" على بناء الفعل للمفعول، وقرأ حبيب بن عبد الله بن الزبير ، وأبو مجلز على بناء الفعل للفاعل، أي: قضى محمد صلى الله عليه وسلم القراءة، وقال ابن عمر ، وجابر بن عبد الله رضي الله عنهم: قرأ عليهم سورة الرحمن عز وجل، فكان إذا قال: "فبأي آلاء ربكما تكذبان " قالوا: لا شيء من [ ص: 633 ] آلائك ربنا نكذب، ربنا لك الحمد، ولما ولت هذه الجملة تفرقت على البلاد منذرة للجن، قال قتادة : ما أسرع ما عقل القوم.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله:

فهنالك وقعت قصة سواد وشصار وخنافر وأشباههم صلى الله على محمد عبده ورسوله وسلم.

التالي السابق


الخدمات العلمية